بعد مخاض طويل أعلنت في تونس تركيبة الهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري التي ستوكل إليها مهمة تنظيم هذا القطاع بعيدا عما جُــلبت عليه الحكومة لسنوات من تطويع له ورفض أن يكون له أي دور فاعل أو ناقد.
وبغض النظرعن الأسماء الواردة في هذه التركيبة في بلد من المستحيل تقريبا أن يحظى فيه أي كان برضا الجميع، فإن ما ينتظر هذه الهيئة كبير ومعقد مع أنها لن تستمر في مهامها إلا إلى حين إجراء الانتخابات المقبلة نهاية هذا العام على الأرجح. ومع ذلك، فإن بإمكان هذه الهيئة أن تضع الأسس الأولى التي توفر الأرضية المناسبة لانطلاق من سيخلفها. مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة خاصة إذا وضعت الهيئة في اعتبارها أنها لن تنطلق من الصفر وأن ما قامت به الهيئة العليا لإصلاح الإعلام في العامين الماضيين يشكل أرضية انطلاق لا يستهان بها لاسيما وقد اعتمدت في عملها على استشارة خبراء عديدين محليين ودوليين مع تنظيم عشرات الندوات وورشات العمل المتعلقة بالاعلام ومراحل الانتقال الديمقراطي.
أول ما سيواجه هذه الهيئة هو رسم خط فاصل واضح وجلي بينها وبين ‘الترويكا’ الحاكمة حاليا. ليس معنى ذلك أن تدخل معها في عداء لا لزوم له ولكن أن تضع نصب عينيها حرية هذا القطاع ومهنيته بغض النظر عما يمكن أن يجلبه ذلك من رضا الحكومة أو سخطها. أية انطلاقة خجولة للهيئة أو الظهور بمظهر من يهمه رضا الرئيس والحكومة قبل المهنة ورفع شأنها ستلحق بها أيما ضرر بمصداقيتها.
ما ينتظر هذه الهيئة من مكابدة في التعامل مع مشهد إعلامي لا يقل عنتا، وذلك بين قديم استرد المبادرة بعد تغيير جلده وجديد إما هزيل أو خارج أي ضوابط مهنية مع تمويل تكتنفه نقاط استفهام عديدة وسط أجواء مشحونة أحيانا ضد الإعلام والإعلاميين ومحاولات تصويرهم، من قبل بعض الجهات، السبب وراء كثير مما تعانيه تونس حاليا.
لا مفر لهذه الهيئة الجديدة أن تعلم من الآن أن كسب رضا الجميع غاية لا تدرك وأن أي محاولة جادة منها لإرساء تقاليد عمل جديدة في المجالين الإذاعي والتلفزيوني في البلاد ستصطدم بالاعلام الموروث من العهد السابق الذي قد يرى في ذلك محاولة لضربه بعد أن بات واسع الانتشار وفي نفس الوقت بالإعلام الذي جاء بعد 14 يناير 2011 والذي يعتقد أن ‘شرعيته الثورية ‘ أو علاقته بعضه بأصحاب القرار الجدد تشفع له كل شيء.
بعد عقود من الإحتكار الرسمي للفضاء السمعي والبصري في تونس لن يكون من السهل أن تتأقلم السلطة، أي سلطة، مع هيئة تراها تتحرك في مجال حيوي كان تستأثر به دون غيرها، كما لن يكون من السهل على أصحاب مشاريع تلفزيونية أخذت مكانتها بحكم رضا السلطة السابقة أو الحالية أن تقبل بأن هذا الود القديم أو الراهن مع أهل الحكم، وكلاهما ليس لوجه الله، لا يمكن إلا أن يخضع في النهاية للقانون ولا شيء غير القانون دون شبهة التشفي أو المجاملة.
مثال واحد فقط: برامج ‘التوك شو’ السياسية في تونس الإذاعية والتلفزيونية تحظى حاليا بمتابعة واسعة في بلد لم يعرفها من قبل أبدا، لكن ضرورة تقدير ما تشهده من جرأة تطال كل شيء لا يمنع من القول إن بعضها يعاني إخلالات عديدة تتصل بأخلاقيات المهنة ومستوى الحوار الذي يتجاوز في عدد من المرات الحد الأدنى من آداب إدارة الاختلاف مع أجواء كراهية مؤسفة. من الصعب أن تتصدى الهيئة الجديدة للإعلام السمعي البصري لمعالجة تجاوزات من هذا القبيل، على سبيل الذكر لا الحصر، دون أن تثير حول نفسها شبهة التضييق على حرية الرأي. المعادلة صعبة بالتأكيد ولكنها تذكر بقول جميل لا يعرف صاحبه ‘ لكل الناس الحق في الحماقة ولكن البعض يسيء استخدام هذا الامتياز’!!.