للمرة الثالثة تبدّل السعودية روايتها لملابسات تصفية جمال خاشقجي. فمن رواية القتل أثناء «شجار واشتباك بالأيدي» داخل قنصليتها في إسطنبول، إلى رواية القتل بـ»كتم النَفَس»، إلى إقرارٍ من النيابة العامة في الرياض بأن المشتبه فيهم « أقدموا على فعلتهم بنية مسبقة».
ثبوت النية المسبقة للقتل لدى المشتبه فيهم السعوديين، لم يعطّل نية دونالد ترامب المسبقـة لتفادي إدانة محمد بن سلمان بل لتبرئته. إدانة ولي العهد ــ وهو الحاكم الفعلي للبلاد ــ تعني إدانة السعودية دولةً ومسؤولين. لوحظ منذ بداية تواتر الظنون والاتهامات، أن ليس في نية الرئيس الامريكي التسليم بإدانة محمد بن سلمان، لأنها تستتبع بالضرورة إنزال عقوبات شديدة بالسعودية، ليس أقلها صرف النظر عن صفقة تزويدها أسلحةً بقيمة 110 مليارات دولار.
ليس ترامب وحده من يستهول خسارة الصفقة المليارية. لوبي صنّاع السلاح وتجّاره في الولايات المتحدة يشاطر شاغل البيت الأبيض موقفه الحريص على مصلحة «أمريكا اولاً». «رابطةُ الصناعات الجوية» التي تضم كبريات شركات الصناعات العسكرية كـ»لوكهيد مارتن» و»نورتروب جورمان» و»بوينغ» و»ريثون» و»جنرال داينمكس» بعثت برسالة إلى إدارة ترامب تتضمن «نقاطاً طارئة» هي بمثابة برنامج عمل لصنّاع السلاح، لاعتماده في الضغط على صنّاع القرار في الولايات المتحدة. تتمحور نقاط الرسالة على حجة رئيسة مفادها «أننا، ببيعنا المنتجات الامريكية للحلفاء والشركاء، نستطيع أن نضمن ألاّ يتمكّن اعداؤناً من أن يحلّوا محلنا في علاقاتنا السياسية والعسكرية والاقتصادية».
إلى ترامب ولوبي السلاح الامريكي، تحظى السعودية بدعم ضمني من «اسرائيل» واللوبـي اليهودي الصهيونـي «أيباك» في واشنطن، ذلك لأن لـِ»إسرائيل»، بحسب دان شابيرو، سفير الولايات المتحدة السابق في تل أبيب، «مصلحة قوية في أن تبقى السعودية حليفة للولايات المتحدة، من أجل القيام بأفضل الاستعدادات لمواجهة إيران» (راجع مقالته في صحيفة «هآرتس» بتاريخ 2018/10/19).
ما يهمّ الرياض إبعاد أصابع الاتهام عن ولي العهد لتبقى السلطة في عهدته ومعها تبرئة سمعة المملكة التي لاكتها ألوف الألسنة
في إطار التحسّب لموقف إدارة ترامب وانعكاسه المحتمل على العلاقة الضمنية المتنامية بين «إسرائيل» والسعودية في مواجهة إيران، نشر زلمان شوفال، سفير تل أبيب السابق في واشنطن، مقالة في صحيفة «معاريف» (2018/10/22) كشف فيها أن زيارة وزير الخارجية الامريكية مايك بومبيو الأخيرة إلى الرياض، واجتماعه إلى الملك سلمان وولي عهده، انتهت إلى التفاهم على «صيغة أساسُها اعتراف
السعودية بما حدث من دون تفاصيل، أو من دون الإشارة إلى مسألة مَن اعطى الاوامر، وأن هذا السيناريو يفترض أن يؤدي إلى محاكمة استعراضية تجري للذين نفذوا الجريمة في القنصلية السعودية بإسطنبول».
ما موقف تركيا مما جرى على أراضيها وما دورها المرتقب في سيناريو «اللفلفة» الجاري على قدم وساق؟
قيل أن «لا أحد في الشرق الأوسط يقدّم خدمات مجانية». أورد هذا القول السفير شابيرو في مقالته آنفة الذكر. من هنا فإن همّ أنقرة الرئيس سوف يتركّز، بطبيعة الحال، على الثمن الممكن استخلاصه من السعودية (وأمريكا ) مقابل « لفلفة» هذه الجريمة ـ الحدث التي ارتكبت فوق الأرض التركية. في هذا السياق، تابَع ويتابع رجب طيب اردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش اوغلو الكشف بالتدريج عن الوقائع والحقائق التي تتوصل اليها التحقيقات في القنصلية السعودية ومحيطها ومع موظفيها، مقرونةً بحرصهما على طرح المزيد من الأسئلة المحرجة حول هوية الآمر الفعلي بارتكاب الجريمة، وعن مصير جثة خاشقجي. غير أنهما في كل ما يقولانه يحرصان أيضاً على إبقاء باب المفاوضة والمساومة والمقايضة مفتوحاً مع الرياض (ومع واشنطن) بدليل استبعاد جاويش أوغلو إحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية.
ما هي الخطوط العريضة المحتملة لصفقة القرن الجديدة بين العواصم الثلاث؟
ما يهمّ الرياض، بالدرجة الأولى، إبعاد اصابع الاتهام عن ولي العهد محمد بن سلمان لتبقى السلطة في عهدته ومعها تبرئة سمعة المملكة التي لاكتها ألوف الألسنة بالذم والتأثيم والتجريم احتجاجاً وإدانةً لحربها الظالمة على اليمن، ولنصرتها الحرب الإرهابية في سوريا وعليها بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا، وانخراطها في «الحرب الناعمة» التي يشنّها التحالف الصهيوامريكي على إيران والتزام تصنيفها العدو الأول للعرب في الحاضر والمستقبل بدلاً من الكيان الصهيوني العنصري التوسعي المغتصب.
ما يهمّ انقرة، بالدرجة الاولى، الحصول من السعودية على تعويضٍ مالي وازن مقابل امتناعها عن إدانة محمد بن سلمان، والضغط على واشنطن لحملها على التسليم بهيمنة تركيا على شمال سوريا، ولاسيما على مناطق شرق الفرات، بدعوى تحصين الأمن القومي التركي في وجه الأكراد السوريين الانفصاليين المتعاونين مع الإرهابيين من أنصار حزب العمال الكردستاني التركي، وقد تقوم أنقرة بالضغط على واشنطن لمساعدتها في حمل السعودية على رفع حصارها عن قطر، بذلك كله يظنّ اردوغان وجماعته انهم يكرّسون دوراً لتركيا كقوة إقليمية كبرى.
ما يهمّ واشنطن، بالدرجة الاولى، المحافظة على السعودية كحليف مقبول ومرغوب داخل الولايات المتحدة ولدى حلفائها الأطلسيين كي تستمر معها في عقد صفقات اسلحة بمليارات الدولارات، وفي محاصرة إيران سياسياً واقتصادياً وامنياً، وفي توظيف الجهود لتعطيل سياستها المعادية لـِ»اسرائيل» والداعمة لسوريا وقوى المقاومة العربية، ولا سيما تلك المنخرطة في صراعٍ مرير ضد الهيمنة الأمريكية والعدوان الصهيوني.
الخلاصة؟
توحي التطورات والواقعات وبعض المعلومات المتسربة من الحوار الضمني الجاري بين العواصم الثلاث، بأنه بإمكان التوصّل، عاجلاً أو آجلاً، إلى تسويةٍ مرنة لصفقة مرابحةٍ ثلاثية فيها من المقايضات ما يتيح لكلٍّ من أطرافها رعاية همومه وتحقيق اغراضه الرئيسة بتكلفة مقبولة.
كاتب لبناني