بالطبع ندري جميعا أن الشخصيات عموما، من أهم الأركان التي يقوم عليها النص السردي، ذلك ببساطة، أن النص هو مجتمع صغير، تشكله عناصر المجتمع الواقعي، ونقول كثيرا إن الكاتب مهما كان واسع الخيال، وكثير الحيل، هو في الأساس يعتمد على المجتمع الذي ولد ويعيش فيه من أجل أن يبدع نصه.
كثيرون من الذين يهوون الكتابة، ويودون لو يكتبوا، يسألون عن الشخصية الثرية، أي الشخصية التي يمكن أن توحي بنص، أو تساعد في تشكيل نص إبداعي:
هل هناك مواصفات معينة لتلك الشخصية؟ هل هناك شروط يجب توفرها حتى يدخل شخص ما من الواقع إلى الخيال، بالطبع بعد معالجته إبداعيا؟
أنا أعتقد وبعد تجربة طويلة في الكتابة، أن لا وجود للشخصية الموحية التي يمكن أن تتربع في مخيلة الكاتب، وتمنع غيرها من الحضور إلى ذهنه، أي لا مواصفات معينة، وإنما لسعة ما، أو تفاعل طفيف ما، مع أي شخصية قد يصادفها الكاتب أثناء حياته في بيئته، أو سفره، يمكن أن يؤدي إلى تطورها في ذهنه، وبالتالي استخدامها في نصه، الذي قد يأتي ذات يوم، وكنت جربت كثيرا أن أنشغل بشخصيات اعتبرتها ثرية بمفهوم الثراء الغريب، أو الثراء المبدع، مثل أولئك الحكائين الكذابين الذين يلونون وجوه مجتمعاتهم الصغيرة الملتفة من حولهم بعشرات القصص، التي لن تحدث قط، وإنما تروى بألسنة شديدة الإقناع، وباطشة في انتشالها لأسماع الغير، وغرس الحكاية بكامل بهائها هناك.
أنت لن تعثر واقعيا على ما يصوره حكاء قروي بسيط، ربما سافر مرة إلى العاصمة لتلقي العلاج، أو حضور مناسبة عرس أو عزاء وعاد إلى قريته، بعشرات المواقف المتفردة التي يحكيها بكل إتقان، سيقول مثلا إنه إنه التقى رئيس الجمهورية الذي طلب منه البقاء في العاصمة، للعمل وزيرا للزراعة والري، سيقول إن اتصالا هاتفيا جرى بينه وبين ملك إحدى الدول، وكان يسأل عنه لتعيينه حارسا شخصيا، لكنه لم يقبل من أجل قريته هذه، وهكذا.
أنا كنت أتتبع مثل تلك الشخصيات، أحس بنكهتها وجنونها وما قد تضيفه من معنى لنصوصي، لكن غالبا هذا لا يحدث، والذي يحدث أن شخصيات بلا أي ثراء ولا ازدهار في الشكل والسلوك، تأتي لتدخل طواعية. كنت مرة في الرياض في السعودية، كنت مدعوا للمشاركة في ندوة ما أعتقد كانت عن الرواية والمجتمع المدني، وحين انتهينا، وأثناء وجودي مع المدعوين الآخرين، أمام القاعة، استعدادا للصعود إلى حافلة تقلنا للفندق، عثر عليّ صديق قديم، عملنا معا في الحدود الإريترية منذ سنوات طويلة، أيام كنت مفتشا طبيا هناك، طلب مني الصديق أن نجلس قليلا في مكان ما، وبعدها سيوصلني للفندق، لكن الذي حدث أنه لم يستدل على طريق الفندق، وظللنا أكثر من ساعتين ندور في حلقة محكمة، نبدأ وننتهي في المكان نفسه، وكنت مثله لا أعرف تلك البلاد، وأظنها كانت المرة الثانية لي في زيارتها.
نحن في عالم الكتابة إذن لا نملك خيار اصطفاء مكان معين لتدور فيه الأحداث، ولا شخصيات معينة لتلعب أدوار شخصيات النص، ولا حتى سلوكا عاديا أو فارقا، ليكتب هنا وهناك، نحن في الغالب نتبع النص بما يشكله من معطيات خاصة هو اصطفاها.
لم تكن خرائط غوغل مزدهرة ذلك الوقت، ولا ظهر برنامج (ويز) إلى الوجود لنستخدمه، وتذكر الصديق أخير شخصا يمكن أن يدلنا. كلمه وترك المايكرفون في الهاتف مفتوحا، سأله الشخص الذي كان منغمسا في لعبة حامية من الورق، كما بدا من الصياح، وعبارات التشجيع، عن موقعه، أخبره، بعد ذلك بدأ يزوده بعلامات غريبة جدا ستقوده إلى الفندق، أذكر منها: لافتة مائلة عليها كتابة شبه مطموسة، مطعم للفلافل غالبا ليس فيه زبائن، والعامل فيه سيكون واقفا عند الباب ويداه في جيبي سرواله، سيارة نقل تحمل بضائع من مخزن مفتوح، بابه أزرق، عربة صغيرة مركونة ومغبرة، ومكتوب على زجاجها المغبر: للبيع، وعشرات العلامات الأخرى التي كانت كلها صحيحة، وقادتنا في عشر دقائق إلى الفندق.
أنا اعتبرت ذلك الرجل شخصية ساحرة، ثرية، وأنه لا يحفظ العلامات الثابتة في الطرق فقط، لكن حتى تلك المتحركة، هو يعرف زمن حدوث بعض الأشياء، وزمن اختفاء أخرى، يعرف إن كان في المطعم زبائن أم لا؟ وكل ذلك وهو يجلس مع شلة، في مكان بعيد، يلعبون الورق.
قد يكون الأمر عاديا عند البعض، ومنهم صديقي الذي لم ينتبه إلى تلك الغرابة، لكن أنا انتبهت، وتحت وطأة انبهاري بتلك الشخصية في تلك اللحظة، فكرت في رواية إسمها GPS، لكن تلك الرواية لم تكتب قط، وذلك الإشعاع من تلك الشخصية، كأنه لم يكن.
في المقابل تجد شخصيات عادية، كانت موجودة في زمن الطفولة أو الشباب، من حولي ولا تملك أي ثراء أو إشعاع خاص، يجعلها شخصيات روائية في نصوصي الغريبة، ظهرت بعد تفعيلها، وتعديل بعض معطياتها، وكنت أعرف رجلا مسنا، يجلس أمام المستشفى في مدينة بورتسودان يبيع الزجاجات الفارغة التي يشتريها المرضى، لتعبأ بأدوية السعال، في ذلك الزمن البعيد، الذي كانت تستخدم فيه الحقن الزجاجية، والإبر التي يتم تعقيمها في ماء قد لا يكون حتى ساخنا، وحيث لا تلوث للبيئة، ولا فيروسات ضحلة شقية تفتك بالملايين، ذلك الرجل ظهر فجأة وبعد كل تلك السنوات بعد قليل من الإضافات في نص كتبته.
نحن في عالم الكتابة إذن لا نملك خيار اصطفاء مكان معين لتدور فيه الأحداث، ولا شخصيات معينة لتلعب أدوار شخصيات النص، ولا حتى سلوكا عاديا أو فارقا، ليكتب هنا وهناك، نحن في الغالب نتبع النص بما يشكله من معطيات خاصة هو اصطفاها، قد يكون كما نريد وقد لا يكون، وتظل هناك أنماط معينة عند كل كاتب يستخدمها في نسيجه الخاص، إنها أنماط اجتماعية تم الفراغ من تكوينها، وما على الكاتب سوى إفساح المجال لها، وفي زمن طفولتنا نحن مثلا في مدينة بورتسودان، وحين تكتب رواية عن ذلك الزمن، لن تستطيع أن تغض الطرف عن الإغريق والهنود، والطليان الذين شكلوا جزءا من المجتمع آنذاك، وانخرطوا فيه، وكانوا قدموا بغرض التجارة، وانتهوا مواطنين عاديين.
كاتب سوداني
اعتقد عندما يكون للشخص تراكمات مواقف وتجارب وموروثات ثقافيه فمن المؤكد سوف يكتب بحريه، حسب تنوع قطاعات التراكمات، ممكن يكون متأثرا بمجالات العلوم المختلفه أو معاشات لها، فينتج العمل خيال علميا أوحتي عسكريا وحربيا بأسلحته، أوصيادا يبحث عن اللآلئ في قاع البحار.. اذا تنوع التراكمات يولد الإبداع…
مقال ممتع ورواية GPS لم تضيع لقد ظهرت هنا . رأي شخصي ( قد أو فالنقل يمكن للكاتب ان يختار نقطة معينة او حدث لبداية الرواية وكالعادة الاحداث بها شخوص وبعدها تجري سفينة الرواية كما تشتهي هي نفسها ، إضافة لذلك الكاتب يمكنه التدخل من مرة لاخرى لضبط الإقاع أو الإخلال بالاحداث كيفما يشتهي لكن في الاخير تعود الرواية وهي سيدة نفسها. تحياتي