ثكلى

جلستُ أمام صندوق مليء بالأوراق والمستندات بحثاً عن جواز سفري القديم كي أتأكد من تواريخ الذهاب والعودة من البلدان التي زرتها سابقاً. كنت أملأ استمارة محشوة بالتفاصيل المملّةِ. كم أكره تلك الاستمارات والوقت المهدور في ملئها، فكلما أجلس أمام شاشة الكمبيوتر، أشعر بالاختناق. وبينما كنت منهمكةً في البحث، لمحت صورة التُقِطَت لأصغر أبنائي قبل ولادته.. أحسست بأنها ظهرت كي تتيح لي قليلاً من الوقت فأتوقف عن هذه المهمة المضجرة. عشرة أعوام مضت على التقاط هذه الصورة، لكني أتذكر تلك اللحظة وكأنها حدثت بالأمس.
استيقظت في وقت مبكر يومها، فلم يكن كغيره من الأيام. سأرى طفلي للمرة الأولى قبل ولادته بواسطة تقنية جديدة عالية الدقة! وأذكر كل تلك المشاعر المتناقضة التي اعترتني دفعة واحدة: الفرح والقلق.. التفاؤل والتوتر.. الضحك والبكاء. أردت أن أخبر العالم بأسره عن مدى لهفتي لرؤيته، وتطلعي إلى رؤية ملامح وجهه قبل أن يخرج إلى هذه الدنيا!
دخلت إلى العيادة ونظرت حولي، وكأن كل من هناك جاء لمعرفة شكل طفلي. جلست والارتباك بادٍ عليَّ بالقرب من سيدة تصغرني سناً. كانت هادئة لا تتململ كما أفعل، وقد أزعجني هذا الهدوء الذي يتملكها. لا بد أنها جاءت لترى جنينها قبل ولادته أيضاً، فمن الواضح أنها في شهرها الأخير، لكنها هادئة!
بدأت أفقد صبري، فلم يحن موعدي بعد، وهذا الانتظار يكاد يقتلني. أنا مزاجية بطبعي، أحياناً أكون اجتماعية ولبقة، وفي أحيانٍ أخرى، أكون متجهمة أحاور نفسي وعلى وجهي تعابير الامتعاض والقلق. أبدو مرحة منطلقة تارةً، ثم أغدو منزعجة ولا أطيق من حولي تارةً أخرى. أما حين أخوض في تجربة كالتي أمر بها الآن، فغالباً ما أفقد اتزاني ورباطة جأشي، ويغدو كلامي ثرثرة بلا معنى.
بدأت أتحدث إليها: أنا متوترة جداً ولا يسعني الانتظار، سأرى ولدي اليوم! إنه ابني الثالث، لكنها المرة الأولى التي أختبر فيها هذا الإحساس، إنها تجربة جديدة بالنسبة لي؛ تلك التقنية التي تتيح لي أن أرى طفلي بوضوح قبل أن يولد.. عندما كنت حاملا بأخويه، رأيتهما بالسونار، لكنها صور ضبابية كالأشعة، ولا أرى من الجنين سوى جسم مظلل وبقع متناثرة تقول لي الطبيبة إنها أعضاؤه. تشير إليها وتقول هذا القلب وهذه المثانة و.. و.. أما اليوم، فسأراه تماماً كما سأراه حين يولد. وسأخبره حين يكبر بأني التقيته وعرفت شكله قبل ولادته!
نظرت إليّ السيدة الشابة، دون اكتراث، لكنها ابتسمت بداعي المجاملة. أزعجني برودها وتلك الابتسامة المتصنعة، فقررت أخيراً أن أصمت؛ لكن صمتي لم يدم طويلاً، فسألتها:
هل هذا طفلك الأول؟
نعم.
هل تعرفين جنس الجنين؟
إنه صبي.
جاءت الممرضة في تلك الأثناء، وطلبت مني مرافقتها لقياس الضغط والوزن. ومن ثم رافقتني إلى غرفة السونار. أخذت دقات قلبي تتسارع، أكاد أسمعها تقرع كالطبل حين رأيته. كنت أبتسم وأضحك باكية وأنا أتحدث إليه: هلا حبيبي! أنا ماما! أنا لا أعرف اسمك بعد، لكني في شوق للقائك. لا يسعني الانتظار حتى أحتضنك! أخبرتني الطبيبة أن كل شيء على خير ما يرام، والجنين بصحة جيدة. ثم طلبت مني أن أنتظر قليلا ريثما تطبع لي الصور والتقرير. أخذت أمشي في الممر المؤدي إلى غرفة الانتظار، وأنا أبتسم كلما تذكرت شكله: مغمض العينين ورأسه ملتصقٌ بقدميه.
عندما وصلت إلى الغرفة، كانت السيدة ما تزال جالسة في مكانها. فبادرتني:
هل رأيته؟ هل كل شيء على ما يرام؟
نعم، الحمد لله! ماذا عنك؟ ألم تنتهي من فحصك بعد؟
نظرت إليّ وأجابت بهدوء:
أنا هنا لألد طفلي بالطلق الصناعي. لقد توفي في رحمي منذ أيام وقد نصحتني الطبيبة بأن ألد ولادة طبيعية بدل إجراء عملية قيصرية. جئت لأختبر آلام المخاض لكن لا لأفرح بمولودي بل لأودعه.
خيم صمتٌ قاتلٌ لفترة أحسستها دهراً. لم أعرف ما أقول لها. أي مفارقة هذه، فقد كنت أثرثر عن فرحي ولهفتي لرؤية طفلي، وهي جاءت لتنجب ابنها وتضعه في تابوتٍ صغير.
أنا آسفة جداً. لا أستطيع تخيل ما تمرين به، أعانك الله على مصابك وعوضك خيراً.
ملأني إحساس مؤلم، أصارع كي أتخلص منه. كل ما أردته لحظتها هو الهروب من ذلك المكان. أكاد أختنق حزناً، وأتشبث بما تبقّى لي من قوةٍ كي لا يغلبني البكاء. نهضت وودعتها، وخرجت مسرعة مرتبكة من العيادة دون أن أستلم الصور والتقرير.
قبل أن أصبح أماً، لم أكن بهذه العاطفية. تذكرتُ موقفاً جعلني أدرك هذا التغيّر بعد ولادة ابني البكر، حيث كنا في زيارة إلى أقارب زوجي وكان فيلم «نحن لا نزرع الشوك» يُبَثُ على شاشة التلفزيون. كنت قد شاهدت هذا الفيلم عدة مرات قبل زواجي، لكني لم أتأثر بأحداثه كثيراً حينها، بل كنت أراه فيلماً يفتقر إلى الواقعية، وكنت أرى أن أداء الممثلين غير مقنع. لكن ما أدهشني هذه المرة، هو مدى تأثري بفجيعة شادية ووفاة طفلها الرضيع إثر إصابته بالحمى. أتذكر هذا المشهد وكيف بدأت دموعي تنهمر، فركضت إلى المطبخ واختبأت خجلاً، فلم أرد أن يراني أحدٌ بهذه الحالة.
ما إن جلست في سيارتي، حتى انفجرت باكيةً. كان بكائي لأجلها، تلك التي جلست رابطة الجأش دون أن يرى كابوسها أحد. كيف لها أن تجتاز تلك المحنة؟ كل أمٍ تعرف معاناة المخاض وآلامه التي لا تتبدد إلا باحتضان وليدها للمرة الأولى. كيف لها أن تصبر على هذا العذاب؟ بم ستمني نفسها كي تدفع به خارجاً إلى الموت؟ كيف ستنام الليلة وهي خاوية القلب والرحم؟ من سيهديها حفنة من الأكاذيب البيضاء ويخبرها بأنها ستنسى بمرور الزمن، وأنها ستنجب طفلاً آخر يعوضها عما فقدته؟ كيف ستنسى؟ لقد حملته وهناً على وهنٍ لأشهر طويلة، أحست بركلاته التي أبقتها ساهرة بينما ينام الآخرون. ثم واكبت كل لحظة وهو ينمو في أحشائها، لتفقده فجأة!
لا أعلم ما حدث لتلك السيدة، فحين رجعت إلى العيادة بعد أيام قليلة لاستلام الصور والتقرير، لم أجرؤ على سؤال الطبيبة عنها، وها أنا الآن أنظر إلى تلك الصورة فأتذكر فرحي: فرحٌ باهتٌ غيرُ مكتملٍ، مشوب بوجه امرأةٍ يعصف بها ألمٌ فادح.

كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية