لو فتشنا كرتنا الأرضية فرسخا فرسخا، لوجدنا اتفاق جميع الأقوام التي عاشت وبادت، أو سادت، على أن الطين هو المادة التي صورتِ الحياة أول مرة. من أين جاء هذا الاعتقاد لدى البشر كافة، مهما اختلفت ألوانهم ومشاربهم في أصقاع الأرض؟
في الأساطير السومرية نجد أن الإله (أنكي) خلق الإنسان من وعاء مصنوع من طين، ليكون خادما للآلهة. وتؤكد هذه القصة الأساطير البابلية واليونانية والمصرية والهندوسية والصينية، وهناك روايات يعود تأليفها إلى النبي زرادشت، تحكي كيف أن الحياة ابتدأت على سطح عجلة لصنع الفخار. نقرأ مثل هذا الكلام في قصص بدء الخليقة، وكيف أن الإنسان في أصله كان صلصالا نفخ الله فيه روحا، فقام بشرا في أحسن تقويم. وذُكِرت هذه الأسطورة في القرآن الكريم في ست سُوَر: المؤمنون: «ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين»، والسجدة: «الذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ»، والصافات: «إنَا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ»، ومعنى لازب متماسك الأجزاء ومتجانس، ويكون في قاع النهر، أي ما ندعوه بالطين الحِرّي، الذي يستعمله الخزافون في عملهم. وُرِدَ ذكر الطين كذلك في سورة الرحمن، والإشارة فيها صريحة: «خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخارِ»، وفي سورة الحجر: «لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون»، الصلصال: هو الطين اليابس الذي يصلصل، أي يُحدث صوتا، إذا حُرك أو نُقر عليه، كما هو عليه حال الفخار، وجاء في التفسير أن الحمأ المسنون هو الطين الأسود اليابس خبيث الرائحة، ومعنى مسنون: مصور بهيئة إنسان أجوف، والآية الكريمة ربما كانت أحد جذور قصيدة الشاعر الأمريكي ت. س. إليوت «الرجال الجوف»، فالمعروف عن الشاعر ثقافته الواسعة في مختلف اللغات، وقدرته على الاستعارة من آثار الشعوب في أنحاء الأرض، وتعلقه بالكتب المقدسة خاصة، وهذا ليس موضوع حديثنا، ولكنه استنتاج، جاء عرضا في أثناء الكلام.
لديكَ نار ولديكَ طين، والخزف الناتج يكون صقيلا وقويا وهشا، مثل طفل وليد، حتى إن الألوان التي تغطيه تبدو كأنها قطعة منه، جاء بها الرضيع من رحم الأم، كما أن العلاقة بين الجنين الذي ولد من طين، وعالمه الجديد، لا بد أن تكون في صورة أخرى، لكنها مشابهة للأولى، أو أنها امتداد طبيعي لها، ونرى فن الخزف يتجه إلى صناعة القوارير والأطباق والأكواب والجِرار. الإنسان المصنوع من صلصال يطلب أن يرتوي من حميا الحياة عبر مائدة مماثلة.
للشاعرة التشيلية غابريلا ميسترال (نوبل 1945) قصيدة توضح هذه الفكرة، ولكن بطريقة الشعر:
«في منزل الطفولة كانت أمي/ تحمل الماء في جرة إليّ/ ومن جرعة إلى جرعة/ لم أكن لأحول بصري عنها/ حين أرفع عيني إلى أعلى /أرى الجرة تبتعد متراجعةً/ إلى الآن وأنا ظمأى».
الصلصال الذي تذكره روايات بدء الخليقة يعود ثانية، ليُثبت أننا جُبِلنا من طين ونار، طالما أنه يمدنا بالغذاء والماء، بواسطة الطبق والجرة.
هل جربتم أن يكون طعامكم وشرابكم في وعاء من طين محروق؟ بالنسبة لي، كانت لي في إحدى محطات العمر عِشرة سعيدة مع مائدة تتكون من الفخار وحده، وربما كانت الدافع لي في خط هذه السطور. الفرن الذي تختمر في ناره الأواني والأكواب تتغير مادته بمرور الزمن، وباختلاف الظروف المحيطة، مثلما يتقدم العمر ببطن المرأة الولود، ما تنجبه في أول الشباب يختلف عنه في آخره، تضاعفت الخبرة وازدادت العفوية عند إنجاز العمل، كما أن الرخاء والعافية وسهولة العيش لها علاقة حتمية بالناتج. ومن أجل أن يكون العمل المنشود أقرب إلى الطبيعة، ولغرض تقوية الجانب الروحي والإحساس بالمكان، يتجنب الخزافون استعمال الوقود في إشعال الفرن، ويختارون بدلا عنه شجر الخروب والحور والأرز والصنوبر.. غابة كاملة اشتركت في سبيل صنع كوب نحتسي منه اللبن والماء. ويخلطون مع الحطب أنواعا من الصخور، ومواد أخرى من صُلب الطبيعة، مثل قرون الغزلان والمحار وريش الطيور الداجنة، كي تترك الطبيعة آثارها على سطح الجرة أو الكوب، بالإضافة إلى الجوهر، وما حدث للأشجار والحجارة والطير من تقلب في الفصول والأنواء، سوف يتشربه الوليد الجديد. إنها الطبيعة تمدنا بقوة الخلق الأول، وهي دورة التكوين نراها كاملة في قطعة مفخورة من الطين، لا يتجاوز حجمها رقعة شطرنج، ولهذا السبب قيل إن الخطورة الأكبر في الفن هي صعوبة الارتقاء إلى مستوى الخزف الصيني الأزرق، كأن ربات الفن (الميوزات) اجتمعن وألهمن الخزاف في سبيل أن يُتم عمله. حتى البيئة المحيطة بالفرن لها علاقة بما سوف تكون عليه صورة الفخار الأخيرة، ولهذا يحرص الخزافون على أن تتنفس أفرانهم الهواء الطلق، في غابة أو سفح وادٍ أو شاطئ نهر، لأن ما يدور خارج الفرن من أصوات وألوان وروائح سوف تنتقل حتما إلى داخله، وتطبع آثارها.
المعروف عن الجرار والأواني صِغرُ حجمها قياسا إلى بقية الأعمال الفنية في الرسم والنحت، فهي مما يتسع له الفرن الذي يُطبخ فيه الطين على مهل، ويماثل هذا بطن المرأة الحامل. مثل دارج: «البطن بستان يجيب أشكال ألوان»، كناية عن اختلاف أشكال مواليد المرأة الأم وأخلاقهم، وهذا ينطبق أيضا على ما يستخرجه الخزاف من داخل فرنه، ويتعامل معه ككائن حي من جميع الوجوه، فهو يتلمس سطحَ الفرن، ويربت عليه بحنو يقاربُ ما تقوم به المرأة أثناء حملها، عند تواصلها بواسطة اللمس مع الجنين. ما دامت النار لم تخمد تماما في الفرن، فهو يشبه رحم المرأة، وعندما يبرد يبدو مثل باطن قبر، والتعبير لصديق يعمل في صناعة الفخار، يقف الخزاف قربه وآثار الدخان والرماد عليه، كأنه كائن غريب أتى من مسافة بعيدة في الزمن. الإناء الخارج من الفرن ليس مجرد شيء ساكن فقط، وإنما هو سجل لتفاعل قوى مادية وروحية، تظهر لنا بهيئة شقوق وخدوش وانتفاخات، كأنها رموز لأشياء غير مرئية تَزيد من مستويات الإحساس والتأويل، تماما مثلما يحصل عند معاينة الطلاسم واللقى الأثرية، وتحليل وتقدير مغزى كل نتوء وتجويف وثقب فيها. إن ما حدث في بقعة من الأرض من أحداث وكوارث وأنواء، تشربت بها اللقى عبر مئات أو ألوف السنين، واحترقت قصص الناس والأشجار، ومعها جميع الكائنات والصخور والحجارة في فرن أعماق الأرض، أو ما يُدعى «بطن التاريخ»، وتكون ساعة استخراجنا للقطعة الأثرية مخاضا لها.
هكذا تولد الأشياء الجميلة التي تمنحنا الطبيعة؛ لدينا ثلاثة بطون تتماشى فيها خطة العمل جنبا إلى جنب: فرن الخزاف ورحم المرأة وبطن التاريخ، مع ملاحظة حالة التكثيف الزمني في البطن الأول، فالخزاف يحتاج إلى بضعة أيام ليتم عمله، وعلى الوليد الثاني انتظار تسعة شهور، والأكثر بطأ هو رحم التاريخ المتصدعة بالحروب والشدائد؛ تمر قرون ودهور علينا، ثم يلفظ جوف الأرض تمثال الثور المجنح، في ساعة لا يعرفها أحد. ويتبع الفرق الزمني تباينا في حجوم المواليد الثلاثة؛ الإناء صغير قياسا بالطفل الرضيع، وهذا لا يُقارَن جِرْمه بالثور الضخم ذي الجناحين الواسعين.
القوة التي تدعو الأرحام الثلاثة إلى الإنجاب غير مفهومة البتة. لِمَ تلد المرأة وهي سعيدة بحملها، ويعيش الطين في تنور الخزاف في فردوس من قصص وأشعار مشعشع بالألوان المترفة الزاهية، وبطن التاريخ هو الآخر ينطبق عليه هذا الكلام، فما ألذ العيش بجوار الفضة والذهب، والحديد المائع والقصدير؟ إذا شئنا مقاربة الجو الأسطوري السائد في العالم القديم، فتفسير الأمر أن المولودين الثلاثة يُعاودون قصة آدم وحواء عندما وسوس لهما الشيطان أن يهبطا من الجنة إلى الأرض، وسوف يعيشان سعيدَين خالدَين مخلدين. لكنه للأسف الشديد كان حلم ليلة صيف، وأضغاث منام طالَ زمانُها أم قصرَ، لا بد أن تنتهي باليقظة في ساعة، وتبدأ عندها رحلتنا في الوجود باتجاه معاكس، يهبط الثور المجنح نتيجة الحروب، أو الكوارث إلى مكانه الأول في باطن الأرض، أو ربما قضتْ عليه ثورة داعشية بالتحطيم والتفجير بواسطة البارود. والجرة تنكسر وتتفتت ويعود كل إلى أصله، التراب والصخر والحجارة إلى أديم الأرض، وقرون الغزلان وريش الطيور والطحالب تغدو روائح تدخل دورتها الحياتية في الطبيعة، والولد الذي استوى إنسانا بالغا نراه، بعد حين من الدهر، وقلبه يرفرف بلهفة أن يعود مثلما كان، وكأن ثمة ميثاق قائم بينه وبين التراب. نقرأ في سورة الروم: «مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم من تُرَابٍ ثُم إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ».