ثلاثة شعراء جزائريين ومصائر تراجيدية

على الخريطة الشعرية الجزائرية بعض الأسماء الشعرية، التي حملت رؤى شعرية، وخيالا مجنحا ولغة شعرية، لكنها رحلت في مقتبل العمر ولم يتهيأ لها أن تكمل مسارها الإبداعي، لقد رحلت بإرادتها مفضلة موتا إراديا، على حياة لم تُجد الاستمرار في لعبتها.
هل كانت تلك النهايات الفاجعة يأسا من واقع ما عاد للشعر فيه وزنه وقيمته؟ زمن لا يحتفي بالشعر وبالمثل أو العوالم المثالية والروحانية الحالمة، التي يؤمن بها الشعراء ويعيشون في كنفها في حالة أشبه بالذات المعلقة غير المنتمية أو الهوية الملتبسة؟ أم هو النكران والجحود في حقهم الذي طالهم فلم يروا لأنفسهم المكانة التي تمثلوها، وقد رأوا غيرهم احتل مساحة أكبر من حجمه الحقيقي على صفحات الجرائد والمجلات، وعلى الشاشة، أو عبر الأثير ودور الثقافة؟ أم هو المرض النفسي أو الجسدي الذي يخفيه بعضهم، قد يكون هذا، وقد يكون ذاك، وقد يكونان معا وقد يكون غير هذا وذاك.
ولا شك في أن من أهم تلك الأسماء وأرسخها شاعرية اسم مبارك جلواح، ثم الشاعر المتمرد عبد الله بوخالفة، والشاعرة الغامضة صفية كتو، ولا شك في أن هذه الأسماء هي التي ترد على خاطر من يشرع في قراءة هذه المقالة، بشرط أن يكون له إلمام بالشعر الجزائري الحديث..
مبارك جلواح (قرية بني عباس قرب آقبو 1908/باريس1943) أحد أكبر شعراء الجزائر، الذي كان الفضل في اكتشافه وإعادة بعثه إلى الساحة الشعرية الوطنية عبد الله الركيبي، ولولا المخطوط الذي سلمه عبد العالي رزاقي لأستاذه الركيبي، الذي كان يدرّسه الأدب في الثمانينيات في جامعة الجزائر، لما عرف باسم الشاعر أحد، وكان ذلك المخطوط هو الديوان الوحيد للشاعر «دخان اليأس». كان جلواح شاعرا واعدا، بل هو رائد الرومانسية في الشعر الجزائري الحديث، الذي قال عنه البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: «مبارك جلواح شاعر وجداني رقيق له نبرات مشجية في التفنن بمحاسن اللغة العربية ومفاخر السلف والأمجاد تغمره روح جزائرية قومية، مكن لها في نفسه نقاء النشأة والتربية وذكاء العرق والقبيل، قليل العناية بالصقل والتمحيص، ومن هنا جاء ما يرى في شعره من إسناد بعض الكلمات إلى ما لا يلائمها، ومن عدم الانسجام في بعض القواعد، ولو أرخى نفسه على إجادة السبك بممارسة كلام الفحول لكان منه للجزائر أي شاعر). وواضح أن الشيخ الإبراهيمي كان في نقده يتبنى ما يعرف بالنقد الفقهي، الذي مارسه سيد علي المرصفي وهو منهج النقد القديم المهتم بجودة التراكيب وجزالة اللفظ، وتحدث عنه في تاريخ الجزائر الثقافي أبو القاسم سعد الله: «وقد رأينا له قصائد في البصائر، وأخرى مما نشره له الركيبي، فإذا بها تقدم لنا شاعرا فريدا، كان جلواح في غمرة الحركة الرومانتكية التي غزت الوطن منذ الحرب الأولى تقريبا، أما جلواح فكانت الغربة (نحو المغرب ثم فرنسا) تزيده اغترابا عن المجتمع، ولذلك أنتج قصائد في غاية الروعة الجمالية والعاطفية».
لقد جمع أشعاره تلك في ديوانه، الآنف الذكر، الركيبي ودرس أشعاره دراسة وافية، واستقصى حياته البائسة والمكافحة في البلد، وفي فرنسا، حيث انتهى منتحرا عام 1943، إذ ألقى بجسده العليل والنحيل من على جسر على السين، وختم بذلك مسار حياة شاعر لو عاش لكان للجزائر منه أي شاعر على حد توصيف الإبراهيمي.
جلواح ابن العائلة المحافظة، الذي عمل في مدارس جمعية العلماء معلما للعربية في باريس، صاحب القلب الخافق للواعج الهوى والنفس التواقة إلى الجمال، والميال إلى المتعة، كما تحلو لكل شاعر عاشق للحياة. والشاعر في كل زمان ومكان يهيم بالجمال في الإنسان وفي الطبيعة وفي الروحانيات، لم يجد قبولا من بيئته المحافظة في نظرته إلى الحياة المتسمة بتقديس الحرية، وانطلاقه يطلب المتعة ويعب منها، ولم يجد في باريس التي رحل إليها للعمل من أجل إعالة الأسرة – وكان قد تزوج وأنجب بنتا – غير الشقاء والمرض، كان عرضة لمرض دفين باح به مرة في إحدى قصائده، لعله السل وقد هلك به عشرات الشعراء في العالم في ذلك الإبان، ولعل الجحود والنكران وعدم الاحتفاء به من قبل الأوساط الشعرية والثقافية في البلد، وهو يقدر مواهبه وشاعريته وأصالته ونفسه الإبداعي، وقد رأى مجايليه من هم أقل قيمة منه، يُحتفى بهم وتطبع دواوينهم وتكتب الصحافة الأدبية عنهم في ذلك الوقت، ثم حالته المادية البائسة، كل هذه العوامل اجتمعت فتخلص الشاعر من حياته، تاركا ديوانا شعريا وحيدا «دخان اليأس» والعنوان يحيل على المقاساة والجحيم الذي عاش فيه، على حد توصيفه، وقد كان الدخان نكهة ولون هذه الحياة:
هات لي الكأس عزيز القلب هات
واطرب النفس بأرقى النغمات
أيهـا الليل فكـــــم من عبر
تحت أستارك تبدو للحصاة
ركعا حول عظات خشعـا
وجلال العيش في تلك العظات
أيها الليل فما سوى
نقطة سودا بأسمى الصفحات
والنفس الرومانسي ظاهر، فالرومانسي عادة يتشكى ويتباكى ويلوذ بالمثل والقيم والروحانيات، ويتعبد في محراب الطبيعة، ويشكو البشر والأخلاق المتسمة بالتصنع وتعشق الحرية في الحياة، وفي الإبداع، ويهيم بالطبيعة لأنها صنو الحرية، ويأتي الحقل الدلالي زاخرا بالمفردات الدالة على الوحدة والألم والتشكي والتطلع إلى حياة أخرى قوامها الحرية والنقاء والطهر.
وعبد الله بوخالفة (بسكرة 1964 الذي انتحر عام 1988 بقسنطينة) وكان شاعرا واعدا، احتفت به الأوساط النقدية، وقدّمه عبد الله حمادي، بوخالفة طالب الفلسفة والمتأثر بالشاعر الروسي ماياكوفسكي، الذي انتحر هو كذلك في موسكو بطلقة نارية من مسدسه، تعبيرا عن الخيبة واليأس من المجتمع الذي حلم به، وإرهاصا بفشل الثورة الشيوعية، كان بوخالفة شاعرا ذا نفس ثوري، يمتلك مخزونا لغويا غنيا بدلالات التجديد والانطلاق والتحرر والحلم، كما كان يميل إلى التجديد والتمكن من القصيدة الحديثة «قصيدة التفعيلة» وكان قد نشر شعره في ذلك الوقت وهو طالب في قسنطينة في قسم الفلسفة، في جريدة «النصر» و»المساء» وشارك في ملتقيات شعرية وطنية، فهو إذن شاعر من جيل الثمانينيات، وما يمثله هذا الجيل الذي عاش المرحلة الاشتراكية بأحلامها الوردية، ثم عصر الانفتاح الاقتصادي وبداية الحراك السياسي للمطالبة بالتعددية الحزبية، والخروج من أسر الحزب الواحد. قالت عنه مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين: «على الرغم من حياته القصيرة، فإن شعره تجديدي، ينبئ بموهبة كان يمكن أن تكون لها مكانة بين جيل الثمانينيات الشعري، الذي ينتمي إليه، يعبر في قصائده عن الحب والنفس الإنسانية والطفولة والموت وفلسفة الحياة والكون، وتنتمي قصائده في إجمالها إلى الاتجاه الوجداني والامتزاج بالطبيعة وتحريك جوامدها، عبر استعارات وصور رمزية مبتكرة، تظهر في قصائده المقارنة بين الحياة والموت والأمل والحزن»
ربما كان اليأس من واقع لا يتماشى وأحلام الشاعر وطموحه الثوري، كان يساريا متأثرا بماياكوفسكي، ثم مال قبل انتحاره إلى الاتجاه الإسلامي، دون أن ينخرط فيه، وهذا يعبر عن اليأس والاضطراب والتباس الهوية وانسداد الأفق وضبابية الرؤية، فاليسار كان قد أفلس في ذلك الوقت، ولم يتكشف إلا عن الانتهازيين والمتسلقين.
لا مرية في نفس بوخالفة الشعري وحلمه الطوباوي بمجتمع المساواة والعدل، اليوتوبيا التي يؤمن بها كل شاعر حر مناضل، سرعان ما تتكشف مع العمر على الانتهازية والإقطاع والتسلق والوصولية والنفاق والاستبداد، من الأطر الحزبية المبشرة بالمجتمع الاشتراكي، فهي إقطاع أشد من الإقطاع، وتأتي المؤسسات فتسد الطريق وتخنق الحرية، وتزهق روح الإبداع، بالتزام مصطنع ملفق، وهذه هي أزمة اليسار العربي، إنها الثورة حين تتحول إلى أيديولوجيا، وتسقط في فخ الشمولية، ويتخللها المتسلقون والوصوليون والإقطاعيون، وتتكشف على السراب واليباب، فالحريات مضيق عليها، ودعاة الاشتراكية يعيشون كالأباطرة، ورعاة الرأسمالية مفارقة عجيبة. هذا المجتمع الاشتراكي ليس إلا الجحيم ذاته، وفي نهاية الثمانينيات انكشف المجتمع على سياسية الاستهلاك والانفتاح الاقتصادي، حيث اهتمت جهة نافذة بالكماليات وبتدمير المكاسب الثورية لصالح أوليغارشية متحالفة مع الخارج، نهبت الثروة الوطنية، وهربتها إلى الخارج بتواطؤ مع الخارج نفسه، وهكذا تهاوى حلم أحمد طالب الإبراهيمي في كتابه «من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية» هذه الأزمة الوجودية أدت بالشاعر إلى الاعتقاد بنهاية مساره كإنسان وكشاعر حالم يجعل من الشعر أداة للحلم والتغيير معا، وكان قد دخل في مرحلة عصابية هستيرية، فأنهى حياته التي كانت إرهاصات، ببداية أزمة الوطن عامة التي ما زلنا نحيا فيها إلى اليوم.
لن ترجعوه إلى محنة
الليل
لن تلتقوه مع الجرح
وحده يذهب للفجر
يزرع في الطين خطواته
ثم يبصر نرجسة فيخاطبها
بالبكاء
تحت إبطه عصر
وفي كف لم ينم حجر
تاجه الحلم
والصرخات ضفافه
هذا المزج بين العالم الرومانسي والرمزي معا، والرؤيا والحلم والاحتجاج، هي ميزات شعر هذا الشاعر الشاب الذي انتحر على طريقة الشاعر التشيكي جوزيف أتيلا، إذ ألقى بجسمه تحت عجلات القطار في قسنطينة عام 1988 فتهشم جسده أفلاذا.
وأخير تأتي الشاعرة صفية كتو، واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء رابحي (عين الصفراء 1944/الجزائر 1989). وهي شاعرة تكتب بالفرنسية عملت في الصحافة في وكالة الأنباء وصحيفة «الجزائر الأحداث» وكانت مهتمة ومتأثرة بالكاتبة السويسرية الفرنسية إيزابيل إيبرهاردت المتوفاة ودفينة عين الصفراء في عام 1906. من اللافت أن الشاعرة كتو التي ألقت بجسدها من على جسر بتلملي في الجزائرالعاصمة، دفنت في مقبرة في عين الصفراء قريبا من قبر الكاتبة السويسرية التي أحبتها وتأثرت بها.
قال عنها الروائي مرزاق بقطاش: «إن الزميلة الراحلة صفية كتو واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء رابحي، أصيبت في صغرها في رأسها حين وقع عليها أصيص من الزهور في مدينة عين الصفراء، في ما قيل لي بعد ذلك بسنوات، ومنذ ذلك الحين وهي تعاني اضطرابا نفسيا، لكنه كان اضطرابا جميلا، لأنه مكنها من أن تصير شاعرة مرهفة الأحاسيس، ترى أن تنأى عن هذا الوجود لتحلق في سماوات لا نكاد نعرف عنها شيئا، كانت محبة للسينما والندوات الشعرية، تغضب حينا لكنها تبتسم أحيانا كثيرة».
صفية كتو التي تركت ديوانا شعريا بعنوان «القيثارة الصديقة» 1979 ومجموعة قصصية «الكوكب البنفسجي» 1981، عاشت أزمة المرأة المثقفة الشاعرة، التي تعيش جدلية القرية والمدينة، خرجت من قريتها المحافظة في عين الصفراء إلى العاصمة الجزائر وما تمثله من حرية وأفق إبداعي وتواصل، ثم هي المرأة التي تحيا في مجتمع ذكوري كرس الصورة النمطية للمرأة الفاضلة ربة البيت المطيعة الخادمة لأهل بيتها المضحية، بكل شيء في سبيل غيرها والتي ليس من حقها التفرغ لذاتها وتقرير مصيرها، واختيار طريق غير طريق الخدمة، حيث تحتفي بأنوثتها وأحلامها وحريتها وجسدها، وهو تمرد لا يغفره المجتمع لمن تركب هذه الموجة فيحيطها بسياج من أشواك النعوت والأوصاف والتحذير، يوجزها في ألفاظ ذات منحى أخلاقي، حيث التعنت الذكوري ظاهر في ذلك التوصيف. مما أضافته هذ ه الشاعرة المتمردة المتميزة إلى الإبداع الخيال العلمي، فقد باشرت كتابة القصص الخيالية في ذلك الوقت، كما كتبت المسرحيات، وهذا ينبئ بزخم إبداعي ونشاط الخيال والقريحة معا، لولا أن تلك الحياة انتهت بالموت الإرادي في سنة قريبة من السنة التي انتحر فيها بوخالفة، فهل اتفقا على التنبؤ بمأساة الوطن، والإعلان عن دخوله نفقا مظلما .
أحس بثقل في قلبي
كأنما يحمل أثقالا
أقبل بكل حمل
حتى لو كان لمجرمين
منهكة؟ أنا بكاهلي الثقيل
بالخطايا بضجيج
المحطات المكتظة
في كل يوم ازداد انحناء
تحت عبء آخر
واللغة هنا طافحة بالألم والمعاناة فهو الإنذار الذي يسبق الفاجعة.
ثيمة الموت والحرية والحب والطفولة والحنين والوطن هي الثيمات الحاضرة بقوة في أشعار هؤلاء الشعراء الثلاثة، الذين انتهوا نهايات فاجعة وتركوا بصمات شعرية رائدة في التجديد على الخريطة الشعرية الجزائرية، خاصة مبارك جلواح أهمهم وأكثرهم شأنا وقيمة.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ليث الأمازيغي:

    هكذا هو أفول النّجوم: شاعري حتى في سقوطه كشهاب محترق يثير فينا حسّا رهيبا وهو يحترق ويفنى في معارج السّماء، ومن المأساة نستشّف معاني جليلة، وقد جعل أرسطو في “فنّ الشّعر” التراجيديا فنّا يطهّر النّفس الإنسانية من شوائب الدّنس ودرن الآثام.

    اعتقدت -لوهلة- أنّك ستحدّنا عن رمضان حمود الشّاعر الجزائري الذي رحل في سنّ الزهور (وهذا قدر اللّه نرضى به غالبا)، فإذ بك تنقل لنا مآسي ونهايات أشد ّ وقعا وألما لأنها تسائل البشر والمجتمع في ظلمهما لهذا الإنسان الذي لجأ للانتحار بعدما ظلمه بنو جنسه وضيّقوا عليه الأرض بما رحبت، تماما كما وقع مع الشاعر خالد في “رصيف الأزهار لا يجيب”.

    بالنّسبة لي أكبر تراجيديا تركت في نفسي شفقة عميقة على صاحبها، قصّة الأديب المصري رجاء عليش الذي كتب رسالة قبيل انتحاره يناشد فيها السّلام بعد الموت رفيقا أبديا.

إشترك في قائمتنا البريدية