عمان ـ «القدس العربي»: نادراً ما يتحدث رئيس الوزراء الأردني الخبير الدكتور بشر الخصاونة بصورة مباشرة بالشأن السياسي وحصراً المرتبط بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكن سلسلة تصريحات أردنية من كبار المسؤولين بدأت تظهر مستوى الاشتباك الذي اضطرت له السلطات الأردنية لمواجهة تداعيات الفوضى التي يغرق الإسرائيلي بها المنطقة، سواء بالقصف الجوي العنيف على أهالي غزة أو بسيناريو التهجير القسري الذي يمكن، وفقاً لقناعة المؤسسات الأردنية، أن يجرب العدو الإسرائيلي نقله للتداول في الضفة الغربية على حدود المملكة. يراقب الأردنيون المشهد بعد إضاءة إشارة الخطر المرتفع.
وإزاء جرائم الاحتلال في غزة بدأت تضرب على القرار الأردني الأعباء المفترضة والسريعة والفعالة تحت عنوان شريك السلام الذي يرتكب المذابح في غزة. حالة ضيق واضحة وتصعيد في الخطاب يمكن رصدها في مداخلات الساعات الأخيرة لكل من الرئيس بشر الخصاونة، ووزير الخارجية أيمن الصفدي. الخصاونة.
وعلى هامش اجتماع أعلن فيه بقاء المستشفى الميداني العسكري في غزة، قال الخصاونة إن الصمت ليس خياراً مقبولاً عما يجري، وإن بلاده ترفض التهجير القسري، لا بل تعتبره خطاً أحمر. شدة الاحمرار هنا في المقايسة الأردنية يضبطها إيقاع التداعيات وتدحرجات الأزمة، لكن الوزير الصفدي يحاول الإمساك بالمجتمع الدولي مجدداً وهو متلبس بالازدواجية عندما يطرح سؤالاً محدداً: لماذا لا يعامل المدنيون في غزة مثل نظرائهم في أوكرانيا؟
أغلب التقدير أن الوزير الصفدي يعرف الجواب، لكن ما يوحي به السؤال هو البقاء أردنياً في مربع الضغط الدبلوماسي على المجتمع الدولي، حيث لا أسلحة محددة قادرة على إحداث فارق في المعادلة أردنياً. وحيث الذخائر المتاحة بيد الأردنيين وفقاً لصيغة أوراق يمكن استعمالها في اللحظة المناسبة، كما أبلغ القدس العربي عدة مرات عضو مجلس الأعيان الدكتور محمد المومني، مرتهنة لقاعدتي التوقيت الملائم ثم الحرص وطنياً على الاحتفاظ ببعض تلك الذخائر.
عملياً، بالمقابل لا خط الخصاونة الأحمر ولا سؤال الصفدي يمكنهما الإنتاجية إعلامياً في مواجهة الشارع الأردني المحتقن والذي وصلت مناسيب الاحتقان فيه لمستويات غير مسبوقة، ليس فقط بسبب الحرب الإجرامية على المدنيين في غزة. ولكن أيضاً بسبب مخاطر نجاح السيناريو الأمريكي الإسرائيلي المرتبط بتهجير قسري إلى الحدود المصرية تحت عنوان «النجاة وتجنب الموت فقط «.
إذا تمكن الإسرائيليون والأمريكيون من صناعة أزمة لجوء جديدة على الخاصرة المصرية، يقول القطب البرلماني خليل عطية لـ«القدس العربي» سرعان ما ستبرز أطماعهم الوحشية بعنوان حسم الصراع وعدم وجود ضمانات لتهجير الفلسطينيين قسراً مجدداً من الضفة الغربية في اتجاه الأردن.
تلك في رأي عطية لحظة مواجهة مؤكدة ولم تعد محتملة. المفارقة في المقابل أن الحملات الدبلوماسية والتصعيد اللفظي لا تقدم للشارع الأردني الحائر والذي التهبت مشاعره أي ضمانات بأن لا يحدث الترانسفير لاحقاً قرب الخاصرة الأردنية. وهنا حصراً تبرز القناعة الشعبية على الأقل بأن مسوغات الخطاب الأردني السابق لتوفير التشجيع والضمانات لم تعد كافية ليس بسبب قدرات إسرائيل الواقعية ولكن بسبب المخاطر الجذرية الناتجة عن شرعنة برامج اليمين الإسرائيلي في غزة عبر توفير الغطاء الأمريكي لها.
وفي الواقع تشخيص مشكلات ما يحصل في غزة أردنياً ومن منطلقات سياسية وسيادية يواجه مأزقاً استراتيجياً هذه المرة، فالأمر لا يرتبط فقط بالإسرائيليين شركاء الماضي، بل بالحلفاء الأمريكيين ومخاوفهم على الكيان بعد معركة الغلاف الشهيرة.
وبالنتيجة، يرتبط المأزق وتعقيداته بمساحة المناورة الأردنية المفترضة إزاء تحولات كبيرة صدامية من هذا الصنف إذا ما تدحرجت الأزمة في ظل وقائع الحال، حيث قواعد أمريكية عسكرية مستقرة في الأرض الأردنية وتبعية اقتصادية مالية بالضرورة.
وحيث أيضاً، وقد يكون ذلك الأخطر، اعتماد لا يستهان به في الغاز والمياه على الكيان الإسرائيلي ضمن ما وصفه يوماً وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر بأنه خطأ إستراتيجي كبير. عملياً، مفاتيح الغاز والمياه بيد الجار الإسرائيلي السيئ، لا بل بيد مجرم إرهابي كما يصفه عطية، وغالبية الشعب الأردني لا يحترم اتفاقاً ويتجه نحو حسم الصراع. والأهم نحو تصدير الأزمة وتهجير السكان وتفريغ الأرض وتصفية القضية الفلسطينية.
في وجدان غالبية المشاركين في المجالسات السياسية المحلية وفي كل البيانات التي صدرت من الأحزاب وقوى الشارع والنخب تذكير على نحو أو آخر لصناع القرار الأردني بأن السماح بسيناريو وطن بديل لأهالي غزة في سيناء تحت عناوين التهجير واللجوء سيعني فوراً البحث تحت عنوان التكيف والظروف الصعبة مع حالة تهجير مماثلة نحو الحدود الشرقية لفلسطين المحتلة.
لا يوجد بعد شيطنة حركة حماس والمقاومة وفي ظل التضليل الإعلامي والسياسي والدبلوماسي الشرس ما يمنع اليمين الإسرائيلي من التأسيس لانقلاب أكثر عمقاً على المملكة الأردنية الهاشمية لاحقاً، الأمر الذي يشكل هاجساً لم يعد من الممكن إنكاره لا على صعيد المؤسسات والنخب ولا على صعيد المؤسسات أيضاً. ولذلك تربط غالبية الأدبيات والتعبيرات بين سيناريوهات التهجير القسري على أكتاف مصر والأردن بصيغة لا يمكن نكرانها اليوم وعلى الأرجح تنبهت لها متأخرة بعد سلسلة خطرة من فلسفة الإنكار للمخاطر المؤسسة الأردنية مما دفع في اتجاه محاولة تخفيف اندفاع الدول الأوروبية بعدما تبين للأردنيين بأن حليفه وصديقه الأمريكي ولعدة أسباب من بينها الانتخابات أغلق خاصية الإصغاء للحكمة والخبرة.
والمأزق، بهذه الحال، سياسي ووطني شعبياً لا يقف عند محطة تشغيل خاصية الهاجس وتوقف إنكار المواقف رسمياً، بل يزداد في التأثير المحلي المباشر تعقيداً من سوء حظ تيار السلام أو ما تبقى منه في دوائر القرار ولسبب واحد بسيط ومستجد هو أن المقاومة الفلسطينية فقط هي التي يؤدي دعمها وإسنادها وصمودها مرحلياً وتكتيكياً لمساندة الأكتاف الأردنية.
تلك في حد ذاتها أزمة إضافية تنسخ محلياً أزمة أخرى للصف الرسمي بعنوان: كيفية التعامل في المرحلة اللاحقة مع تنظيم عريض اسمه الإخوان المسلمين يقود الشارع الآن ويساهم في ضبط الاحتقان العام ومؤثر في المعادلة الفلسطينية والمجتمع بمعنى أنه التنظيم الوحيد القادر ولو في المرحلة الحالية أو مؤقتاً على مساندة وتعزيز المصالح العميقة للدولة.