ثلاث رسائل من طرابلس

حجم الخط
22

ما هي رسالة طرابلس للبنان؟
هناك إجماع سياسي وإعلامي على أن طرابلس استخدمت في أيام الغضب والحرائق منصة لإرسال رسائل مختلفة، وكأداة في الصراع السياسي على تقاسم سلطة الانهيار.
لكن ماذا لو صوّبنا المنظور، وخرجنا من أطر اللغة السائدة، وبدل قراءة المدينة كمنصة، تعالوا نحاول أن نقرأها كرسائل وجهتها أكثر مدن لبنان بؤساً وفقراً وبطالة.
أرادت طرابلس أن توجه رسائلها، حتى لو سلمنا بأن هناك من تسلل إلى داخل الانفجار الطرابلسي، ودفع به إلى الحرائق، فإن هذا لا يغير من بلاغة الرسائل، بل يزيدها أهمية.
وحين نتكلم عن طرابلس فنحن نتكلم عن مدينة كبرى وليس عن مدينة هامشية. طرابلس هُمشت وليست هامشية، وأفقرت، لكنها ليست فقيرة.
طرابلس هي أجمل مدن لبنان على الإطلاق، بعمارتها وأحواشها وقلعتها المدهشة وقصبتها وأسواقها المجللة بسحر العمارة المملوكية، وبجوامعها ومدارسها التاريخية وحماماتها، ومينائها، والجزر التي تزين شاطئها.
رئتها سهل عكار، وسقفها القرنة السوداء وأرز الرب. إنها ميناء الداخل السوري، شقيقة حمص وحماة. طرابلس الشام وطرابلس لبنان وطرابلس النور.
طرابلس قدمت الصرخة الأولى للتغيير في لبنان، من علي ومن بعده خليل عكاوي، إلى فجر 17 تشرين.
من نسي علي عكاوي وثورة الغضب التي أطلقها في السبعينيات، ومن تناسى خليل عكاوي (أبو عربي) الذي حوّل باب التبانة إلى بؤرة ثورية، لا يستطيع أن يفهم ماذا يجري في طرابلس.
حوصرت الفيحاء مرات عديدة، حاصرها الانتداب عبر عزلها عن مداها الجغرافي الشامي، وحاصرتها الدولة اللبنانية بالإهمال والتهميش والإفقار. وحاصرها زعماء المدينة لأنهم خافوا من ثوريتها وعروبتها، واليوم يحاصرها نظام 4 آب الانهياري، لأنه يريد القضاء على ذاكرة انتفاضة 17 تشرين.
لماذا يريدون تحويل المدينة إلى ساحة يُذبح فيها حلم الانعتاق من العبودية؟
خلال انتفاضة 17 تشرين، قدمت ساحة عبد الحميد كرامي- ساحة النور، مشهدية احتمالات التغيير على مستوى لبنان بأسره. كانت قلوبنا تتجه إلى الشمال، وعيوننا تراقب الفيحاء بمزيج من الإعجاب والغيرة.
ماذا جرى في طرابلس في زمن الثورة المضادة، وتكالب أطياف سلطة الانهيار على حماية نظام تآكل من الداخل.
طرابلس الفقيرة والمُفقرة قالت ما تقوله الأغلبية الساحقة من اللبنانيات واللبنانيين. سلطة 4 آب، التي أفلتت علينا وحش كورونا في فترة الأعياد، تقوم بتحويل الوباء إلى أداة للإفقار والإذلال. سلطة تسعى إلى السيطرة على الأجساد، بعدما فشلت في السيطرة على الفضاء العام.
لقد كشفت صرخة الغضب في طرابلس حقيقة تفكك السلطة وعجزها عن الحكم. انتهى الأمر، لم يعد لصوص المصارف وناهبو المال والعام وتجار الكهرباء قادرين على الحكم، وعلى بناء نصاب سياسي قابل للحياة.
يتحكمون بدل أن يحكموا.
يثيرون ضجيجاً فارغاً عن حقوق الطوائف في السلطة وعن تقاسم مقاعد مجلس الوزراء، وهم يعلمون أن هذه اللعبة ستطيل الأزمة، والأزمة تعني تأجيل كل شيء.
رئيس الجمهورية يعرف أنه دخل التاريخ بصفته رئيس زمن الانهيار، ورئيس الحكومة المكلف يعلم أنه لم يعد يصلح أن يكون ظلاً شاحباً لزمن الوعود الحريرية وأوهامها، ورئيس المجلس النيابي يعرف أن الناس صارت تترحم على عهود تبادل الرئاسة الثانية ولو بين ثلاثة أسماء.
كلهم يعرفون أنهم فقدوا السلطة، وأن وسيلتهم الوحيدة للبقاء هي التسلط الطائفي.
لكن الخطاب الطائفي لم يعد يُقنع أحداً. إنهم يجرجروننا إلى ما يشبه الحرب الأهلية التي لن ندخل في لعبتها الخادعة من جديد.
لقد ورثوا ما يشبه الوطن وحولوه إلى أشلاء.
من ركام الأشلاء ارتفعت صرخة طرابلس لتوجه ثلاث رسائل:
الرسالة الأولى هي سقوط النظام، فالسلطة تفككت في طرابلس قبل أن يعلن حريق مبنى البلدية ذلك. نعم لقد سقط النظام السياسي والاقتصادي الحاكم، ولم يعد إنقاذه ممكناً. اللعبة انتهت، لم تعد مصارف لبنان والكازينو وسياحة التجول بين النفايات تغري أحداً. حاكم مصرف لبنان المدجج بالجوائز افتضح أمره وهو اليوم أمام المساءلة. كلهم أمام أسئلة لا يحسنون الإجابة عنها، وكلهم فقدوا القدرة على الكلام.
وحين تصاب الطغمة الحاكمة بالخرس، تلجأ إلى اللغة الطائفية.
فالطائفية في لبنان هي لغة البُكم.
الرسالة الثانية هي أن هذا الانهيار الشامل ليس بسبب الحصار الخارجي فقط. فلبنان محاصر بالفساد والنهب ولعبة الكشاتبين على طريقة الهندسات المالية. الطغمة الحاكمة حاصرت لبنان بالفقر والجوع، قبل أن يأتي زمن التطبيع الاستبدادي ويحول المشرق العربي إلى ملعب إسرائيلي، وساحة لصراع إقليمي طائفي وحشي.
أما الرسالة الثالثة فتقول إنه آن الأوان لإعادة تفكير جذرية في كيفية بناء وطن من هذا الركام. لم يعد إصلاح النظام ممكناً. إن ضمور الانتفاضة الشعبية، التي خرجت بعفوية جارفة وهي ترفع شعار إسقاط النظام، يعود إلى حقيقة أنها كانت تضمر إصلاح النظام.
فإسقاط النظام تعني بناء مجموعة من الرؤى والقيم الجديدة، ومؤسسات اجتماعية راسخة، وقيادات سياسية تأتي من الحاضر والمستقبل وليس من الماضي. أما إصلاحه فمستحيل.
أرسلت طرابلس رسائلها، وقالت بدماء أبنائها إن الانفجار مخيف ويفتح احتمالات مأساوية شتى، وأن علاج الانفجار ومنعه يحتاج إلى ثورة.
وطرابلس لن تستسلم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. محمد الفقيه _ ماليزيا:

    الكاتب الروائي اللبناني الفلسطيني الياس خوري كل التقدير لقلمك الحر ولبنان مثل بقية العواصم العربية التي مزقتها الطائفية الإيرانية المختبئة خلف دعم فلسطين ومزقها أعراب ترمب ولكن المشكلة أعقد في لبنان والعراق وسوريا لأن اشعال الفتن الطائفية الفارسية سهل جدا بسبب التنوع عبر تخويف الناس من بعضهم لبنان لن ينهض إلا أن رحلت كل الطغمة السياسية الحاكمة من تعامل مع الصهاينة من رموز المارونية السياسية ومرورا بمن كانوا مرتزقة لنظام حافظ البائد وليس انتهاء بمن يخدمون في الحرم السعودي والإيراني

  2. يقول دحام:

    الى غادة الشاويش. خرب الله تدخل في سوريا طبعا. هل نسيت تصريح الجولاني عندما قال سندخل بيروت ونحطم حزب أإلله. هل نسيت الانفجارات في الضاحية. هل نسيت ان بيءة حزب الله. هي التي احتضنت الثورة. وأكثر الناس الذين تضرروا. طبعا نحن ضد قتل المدنين في سوريا. هل نسيت مجازر داهش وجبهة الشام. في سوريا. انت ولا حتى عربية.

    1. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

      القصص لا تروى من صدق الله العظيم نظام الأسد هو الذي بدأ بقتل الناس وجهاز الأمن المتوحش والحرس القديم لحافظ الأسد هم من بطش بالمدنيين والنظام السوري نفسه اعترف بما فعل لحمزة الخطيب الذي خرج جثة هامدة مغتصبة ومنتفخة نظام يحكم بالقبضة الأمنية الخشنة ولا يملك أي جينات تؤهله للإصلاح الثورة السورية المجيدة بقيت ٧ أشهر سلمية حتى قرر المتوحش ماهر الأسد دعشنتها وعسكرتها فبدأ بإطلاق النار على المدنيين لو لم يكن هذا كله قد وقع لكان من حق السوريين إجراء انتخابات حقيقية للتخلص من عائلة حكتهم ٤٠ عاما
      فكيف بما اقترفت ايدي نظام الأسد من الفظائع ؟؟ ..يتبع لطفا

  3. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    ولا زلت أذكر كيف دخلت على الووكر وكنت لا زلت مصابة برصاص الاحتلال المتفجر في القدمين
    كان دمي لم ينشف بعد إلى مكتب الشيخ علي جابر في الأمانة العامة للحزب وسألته وكان في مكتبه تلفاز وخبر عن انفجار عبوة ناسفة في دمشق قلت له :
    يا مولانا ماذا ذهبنا نفعل في سوريا هذا نظام ظالم ظلم الناس وهتك أعراض أطفالهم ولم تكن معالم موقف الحزب قد تشكلت تماما كان يبدو امامنا ان هناك استطلاعا لطبيعة ما يجري في ببداية الازمة وقبل اتخاذ مواقف غبية كتطرفة ولا اخلاقية لدعم بقاء نظام اابعث وتحدي الشعوب في بلادها لاتلقى صدمة أخلاقية قال لي بالحرف يومها : نحن نعلم انه نظام ظالم والحرس القديم لحافظ الاسد هو من ادار الازمة ولدينا معلومات انه ان سقط نظام الاسد لن تمر لنا قطعة سلاح واحدة !
    ..يتبع لطفا

  4. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    قلت له يا مولانا وهل نحن نحمل السلاح لنحمي المظلومين أم نرضى بسقوط مئات القتلى من أجل السلاح ما فائدته إذن !!
    سكت فهو وانا وكل من في الحزب يعرفون نظام البعث جيدا قلت له ساخرة وقد صممت على الرحيل يا مولانا حتى من الناحية السياسية هذا فخ كبير يمكنكم الدخول ولكن لا تعرفون متى يمكنكم الخروج كما أن الأسد سفينة غارقة ولو بعد حين والتنسيق مع القوى القادمة لحكم سوريا أنجع من الدفاع المستميت عن دكتاتور .

  5. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    . وانا أجزم لك يا دحام لولا جرائم جهاز الأمن السوري ووقوفكم كتبت إلى كتف إلى جانب البعث أمنيا وعسكريا بقرار ايراني لما سقط لحم وجه المقاومة

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية