اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إصدار بيان مشترك مع وزير الأمن، يوآف جالانت، جاء فيه أن “رئيس الحكومة ووزير الأمن يعملان بتعاون وثيق ويقدمان الدعم الكامل لرئيس الأركان وضباط الجيش، لضمان أمن الدولة ومواطنيها”. جاء ذلك بعد شيوع أخبار “صراخ” نتنياهو على رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال هرتسي هليفي، وتوبيخه القيادات العسكرية، بسبب الأنباء عن تراجع جهوزية الجيش، مطالبا بمنع التسريبات عن حالة الجيش، وبالقيام بما هو لازم لجعل الجيش جاهزا. لقد حاول نتنياهو الامتناع عن إصدار بيان كهذا لأنّه غير راض عن قيادة الجيش، ولكن التصريحات المتتالية لمقربيه ولقيادات في الائتلاف الحكومي ضد المؤسسة الأمنية، حشرته في الزاوية وجعلته يخرج عن صمته، ويدعم الجيش، من دون أن يدين أو يتطرّق إلى الهجوم عليه.
لقد وصل الشرخ الإسرائيلي الداخلي إلى الجيش، الذي تضرب به حملات رفض الخدمة يسارا، وتصريحات بعض قادة الائتلاف الحكومي والمستوطنين يمينا. وبدا هذا الأسبوع أن هذا الجيش بدأ يفقد من قدسيته ومكانته، إضافة إلى تواصل التراجع في جهوزيته وتماسكه الداخلي، وإلى انخفاض المعنويات والمزيد من تآكل الردع. وفي ظل تواصل تنفيذ مشروع “الانقلاب القضائي”، تطلق القيادة العسكرية صرخات استغاثة بطلب وقفه لأنّه يدمّر الجيش، فيرد عليها اليمين السياسي والإعلامي بأن هذا بمثابة “انقلاب عسكري” على حكومة منتخبة. ومع صعوبة المأزق الحالي للجيش الإسرائيلي، الذي يعصف بقوّات الاحتياط الجويّة والبرية والبحرية والمخابراتية، وحتى القوات النظامية ذاتها، فإن المقبل أصعب بكثير وبما لا يقاس، وقد تصل الأمور إلى شرخ داخلي أعمق وأوسع بكثير، وإلى أزمة دستورية غير مسبوقة، تضع الأجهزة الأمنية أمام خيار الانصياع، إما لأوامر الحكومة أو لقرارات المحكمة، التي قد تقدم على إلغاء كل أو بعض قوانين “التعديلات القضائية”.
المحكمة أم الحكومة؟
بعد قرار الكنيست، في الشهر الماضي، تمرير قانون “إلغاء حجّة المعقولية”، الذي يلغي الرقابة القانونية على التعيينات والقرارات الحكومية، قُدّمت عدّة التماسات إلى المحكمة العليا لإلغاء القانون، لأنّه غير دستوري. وقررت القاضية إستير حيوت رئيسة المحكمة، إجراء المداولات في سبتمبر/ أيلول المقبل، بمشاركة جميع قضاة المحكمة العليا الـ15، نظرا لأهمية الموضوع. وفي عدّة مقابلات لوسائل إعلام أجنبية، ورغم الإلحاح في السؤال، رفض نتنياهو الالتزام مسبقا بالانصياع لقرار المحكمة، وتهرّب قائلا، إن المحكمة تعرف أن لا صلاحية لها بإلغاء قانون أساس له مكانة دستورية. هو يعرف طبعا أن هناك مبدأ قضائيا عاما يقضي بحق المحكمة إلغاء “تغيير غير دستوري للدستور”، وقد جرى استعماله في عدّة دول، ولكن هذا لا يمنع وزراء في حكومة نتنياهو من التصريح سلفا بأن الحكومة ترفض تدخل المحكمة في القوانين الأساس ذات الطابع الدستوري. إذا قررت المحكمة فعلا إلغاء القانون، ورفضت الحكومة قبول قرارها، فسوف تنشأ أزمة دستورية من الوزن الثقيل. وهناك شبه إجماع لدى القيادات الأمنية السابقة، التي تعبّر إلى حد كبير عن الأجواء في الجيش والموساد والشاباك، بأن الخيار يجب أن يكون الامتثال للمحكمة وللقانون، وليس للحكومة ولقراراتها. وقد صرّح رئيس الموساد السابق تمير فيردو، ردّا على سؤال في القناة 12 الإسرائيلية السبت الماضي، بأن على رئيس الموساد أن “يسلّم المفاتيح” لنتنياهو إن هو رفض الانصياع لقرار قضائي. وذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك في الإصرار على أن على القيادات الأمنية أن تقف مع المحكمة ضد الحكومة، جهارا وعلنا، مبدئيا وعمليا، حتى لو أدّى ذلك إلى صدام مع الحكومة.
أكثر ما يقلق النخب العسكرية الإسرائيلية هو سقوط الحماية التي توفّرها المحكمة العليا الإسرائيلية لجرائم الحرب، وفقا لمبدأ “الاستكمال” في القانون الدولي
هناك مؤشّرات قويّة بأن المحكمة قد تلغي القانون، خاصة أن المستشارة القضائية للحكومة رفضت الدفاع عنه أمام المحكمة، وهذا الموقف له وزن وتأثير كبيران على القضاة. وإذا دخلت الدولة الصهيونية في أزمة دستورية بين الحكومة والمحكمة، فإن الأزمة في الجيش والمخابرات ستكون مضاعفة، خاصة أن النخب الأمنية ترى نفسها ملزمة بالامتثال للقرارات القضائية والدفاع عنها، وهي تعتبرها معركتها الأخيرة، إن هي خسرتها انتهى أمرها.
قانون الإعفاء من التجنيد
الاسم الرسمي لهذا القانون هو “قانون التجنيد”، لكنّه في الحقيقة ينص على إعفاء الشباب اليهود، الذين ينتمون إلى التيار الديني التوراتي (الحريديم) من الخدمة العسكرية، حتى يتفرّغوا للدراسة الدينية، ويثير هذا القانون غضبا كبيرا في صفوف المعارضة وأوساط واسعة في الشارع الإسرائيلي، لما يعتبرونه عدم الإنصاف في توزيع الحمل، فهناك إعفاء لمجموعة، وفرض خدمة عسكرية إجبارية على مجموعة أخرى. وترد عليها قيادة الأحزاب الدينية بأن “دراسة التوراة تحمي شعب إسرائيل لا أقل من الخدمة العسكرية”، وقدّمت قانونا يمنح دارسي التوراة مكانة وحقوق الخادمين في الجيش. ويتوقّع المحللون الإسرائيليون أن تمرير قانون “الإعفاء من الخدمة” سيثير غضب الجنود، ويشجّع ظاهرة التهرّب من الخدمة الإلزامية، ويمنح الشرعية لرفض الخدمة. ويبدو أن قيادة الجيش حذّرت نتنياهو من تداعيات هذا القانون، فسارع، بعد اجتماعه معها، الأحد الماضي، إلى الاجتماع بقيادة الأحزاب الدينية التوراتية، واقترح عليها إدخال تعديلات إلى القانون للتخفيف من حدّة تأثيره “السلبي” على الجيش وعلى الوحدات القتالية. نتنياهو لا يستطيع تأجيل سن القانون، فسريان مفعول القانون السابق انتهى مطلع يوليو/تموز الماضي، ولا إعفاء لأحد من الخدمة العسكرية، والشباب المتدينون (الحريديم) يعتبرون بحكم القانون “هاربين من الخدمة”، وما يمنع اعتقالهم هو إجراء مؤقت بناء على قرار حكومي خاص. الأحزاب الدينية التوراتية ترفض أي تعديل في القانون، وهي تربط دعمها لمشروع “التعديلات القضائية”، بتمرير قانون “الإعفاء من التجنيد” مع ضمانات قانونية ملزمة تمنع المحكمة من إلغائه. كما تصر هذه الأحزاب على البدء بسن هذا القانون مع مطلع الدورة الشتوية للكنيست في أكتوبر/تشرين الأوّل المقبل. من المؤكّد أن تمرير هذا القانون سيزوّد الاحتجاجات بالمزيد من الوقود، ويزيد التوتّر القائم ويثير مشاكل جديدة في الخدمة العسكرية في الدولة الصهيونية.
قانون تعيين القضاة
في مقابلاته الصحافية مطلع هذ الشهر صرح بنيامين نتنياهو بأن حكومته تنوي سن “قانون تعيين القضاة”، ولن تطرح غيره من قوانين “التعديلات القضائية. وحدد شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل للشروع في سنّه، معربا عن أمله، ومشكّكا في الوقت نفسه، بإمكانية التوصل الى توافق مع المعارضة بشأنه. وينص القانون المقترح على منح الحكومة سلطة مطلقة على تعيين القضاة، عبر تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة. والهدف القريب لحكومة نتنياهو هو تعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا لضمان أغلبية غير ليبرالية فيها. هذا القانون تحديدا هو أكثر ما يثير الاحتجاج والمعارضة، لأنّه يعني عمليا ورسميا القضاء على استقلالية القضاء، ويمنح الائتلاف حريّة سن قوانين بلا رادع الخشية من إلغائها. وقد أكّد عدد كبير من ضباط وجنود الاحتياط أنهم يرفضون الخدمة في حال مرت قوانين “التعديلات القضائية” وفي مقدمتها هذا القانون تحديدا، ولكن أكثر ما يقلق النخب العسكرية الإسرائيلية هو سقوط الحماية التي توفّرها المحكمة العليا الإسرائيلية لجرائم الحرب، وفقا لمبدأ “الاستكمال” في القانون الدولي. وينص هذا المبدأ على عدم تدخل المحاكم الدولية في حال توفّر محليا قضاء مستقل وقوي وعادل، ويخشى الطيارون وجنود وضباط القوات البرية والبحرية، من أن المحاكم الدولية ستفسّر ما يحدث في إسرائيل بأنّه إسقاط لمبدأ الاستكمال، ما قد يعرّضهم للملاحقة والمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، لن يكون من الصعب إثباتها في محاكمات عادلة.
يعاني الجيش الإسرائيلي من أزمة حادّة، وهي مرشّحة للمزيد من التفاقم تبعا للتطوّرات المقبلة، ويبدو أن ظاهرة رفض الخدمة أوسع وأشد مما يجري نشره في وسائل الإعلام، وهذا ما قاله أكثر من معلّق عسكري في الأيام الأخيرة. فإلى جانب الذي يعلنون موقفهم ويوقّعون على العرائض، تنتشر ظاهرة الرفض الصامت بحجج مختلفة. ما يحدث في الجيش الإسرائيلي هذه الأيام هو تطوّرات غير مسبوقة، وهناك من يعتبرها أصعب أزمة يمر بها منذ تأسيسه. الجيش في الدولة الصهيونية ليس مجرد ذراع أمني، بل هو الذي يعرّف الهوية ويرسم حدود المواطنة “الكاملة” مقابل المواطنة المنقوصة، ولغة الجيش متغلغلة في المجتمع بكل مستوياته، وقيمه ومفاهيمه هي السائدة. وإذا وصل الانقسام الإسرائيلي إلى صفوف الجيش، فهذا دليل دامغ على عمق الشرخ وشدّة مأزق الدولة والمجتمع. السؤال قصير المدى هو هل سيدفع النخب الإسرائيلية إلى مغامرة عسكرية في محاولة لرأب الصدع؟ والسؤال على المدى المتوسّط هو هل سيؤدّي كل هذا بالمجتمع الإسرائيلي إلى إعادة التفكير في النزعة العدوانية الإجرامية لجيشه؟ الأجوبة تبقى احتمالية، ولكن المؤكّد أن أزمة بهذا العمق وبهذه السعة لا يمكن أن تمر بلا أثر كبير على المدى البعيد.
*كاتب وباحث فلسطيني