إلى عهد قريب كان بعض أعوان البريد يحصون الكلمات، وربّما ما زالوا يفعلون ذلك عند إصدار البرقيّات.. كانت حيلة جيّدة أن البريديّين اعتبروا عدد الكلمات محدّدا لثمنها.. ليست المرّة الوحيدة التي كان فيها الكلام بثمن. في حياتنا ندفع أثمانا باهظة لكلمات نقولها أو تقال فينا. يكفي أن تخرج منك كلمة بلا حساب، حتى تأكل كلّ شيء في حياتك: تصبح حياتك هي الفاتورة التي ينبغي سدادها.
دعونا من ثمن الكلمات الرمزي، الذي لا يعرف أيّ منّا هل ينجو من دفعه أو لا ينجو ، ولنعد إلى عدّ الكلمات، تلك المهمّة التي يقوم بها آليّا البريديّ الذي يأخذ قلما أحمر ويضع تحت كلّ كلمة سطرا أو نقطة، ويعدّ مجموعها ويضبط الثمن. لا أعتقد أن البريديّين الأُوّل ممّن ابتدعوا هذه الطريقة في ضبط الكلمات تجاهلوا مسألة شغلت بال اللغويّين المدقّقين: ما حدّ الكلمة؟ أو بعبارة أبسط: أين تبدأ الكلمة وأين تنتهي؟ أعتقد أن البريديّ ليس مطالبا بدروس في النحو، أو في اللسانيّات كي يعرف ما حدود الكلمة؛ بل إنّه وهو يشتغل يرتكز على حدسه، أو عادته في تحديد الكلمة، وهي أنّها الوحدة الخطيّة القابلة للعزل، والموجودة بين بياضين على الورقة. هو يمارس وهو يحسب عدد كلمات البرقيّة ما يسمّى تقنيّا التقطيع: هو يقسم نصّا مكتوبا إلى كلماته، ولا شكّ في أنّه وهو يقطّع يمرّ على الجملة بنصف عين فهي لا تعنيه: النصّ في رأيه يتألف من كلمات، وليس من جمل، كما يقول اللسانيون.
لو كتبت أنا في نصّ البرقية: السلام عليكم، فإنّ السلام كلمة وعليكم كلمة، ولو كتبت سَألْتمُونيها لعدّت كلمة رغم أنّها جملة تامّة، بل إن الفرنسي أو الإنكليزي لو كتب بلغته السلام. بحرف التعريف المستقل خطا في لغته، لعدّ كلمتين، وهذا أمر يراه الاسترابادي النحوي عندنا بعين الرضا.
كنت في بداية عهدي بالبحث في مشاغل النحو مع المرحوم عبد القادر المهيري أكتب له في العيدين برقيّة تهنئة إجلالا لمقامه عندي. وكنت أتساءل – والبريديّ يحسب كلمات نصّ البرقيّة – عن مقياس حسابه، وهل أنّه حلّ معضلات حدود الكلمة التي توقف عندها مطولا، رضي الدين الاسترابادي في «شرح الكافية». كان المهيري رحمة الله عليه، قد أفرد لمفهوم الكلمة مقالا مرجعيّا ما زال وِرْدَ الشّاربين من الدارسين. لم أحدّث الأستاذ المهيري في الموضوع، لكنّي كنت أتمنّى لو أن الزمان بمقاماته كان يسمح لي بأن أمازحه فأقول: ما شَغل الاسترابادي في مفهوم الكلمة والجرجاني والزمخشري وابن يعيش من قبله، لم يشغل البريديّ وهو يعدّ الكلمات. لم أستطع أن أفعل ذلك حتى بعد أن صرت أجالس المرحوم وأباسطه، وأستمتع بنوادر نكته الذكية؛ كنت أحسب كلماتي جيّدا، وأنا أحدّث أستاذنا الراحل؛ كنت أحسب معه الكلام بشكل آخر حتى لا تزيد كلمة أو تنقص كلمة فيتعكر صفو الماء..
من المعلوم أن أيّ معالجة ذهنيّة، لأيّ نشاط مهما كان بسيطا يكون ذا كلفة، حتى إن أفقدتنا العادة الإحساسَ بها، أو القدرة على قياس حجمها كما هو الشأن عن نشاط روتيني كالمشي أو الكلام أو الحديث.
الحقيقة أن للكلام ثمنا حتى داخل اللغة نفسها، إذ يعتقد الناس أن الكلام حرّ مفتوح إلى ما لانهاية، وهذا خطأ شائع. للجملة محلات وعلاقات إعرابية تنتظمها، لا شكّ في ذلك؛ لكنّ لها أثناء ذلك عددا محدودا من الكلمات، تبدأ به وتنتهي. أنا لا يمكن لي في العربيّة أن أبني الكلام إلا بكلمتين: المسند والمسند إليه، ولهما علاقة تربطهما معلومة. هذا شرط نوعي ولكنّه في الأثناء يكون شرطا عدديّا. وحين أستعمل فعلا لازما فإنّ العدد الأدنى يبدو صالحا لبناء الكلام، لكنّ الفعل إن كان متعدّيا تعدّى العدد الأدنى للكلمات، في الفعل اللازم لن يصلح كلاما باستعمال فعل يتطلب دورين دلاليّين هما مثلا العامل والمتأثّر بالعمل. حين أقول (ضُرب عمرٌو) أو (اشترى زيْدٌ) وأسكتُ سأكون قد بنيت جملة نحويّة؛ صحيح أنّها تُرضي مقاييس النحاة، إذ فيها العناصر الإسنادية الضرورية لقيام الجمل؛ لكنّها لن ترضي من أخاطبه إلاّ بإتمام الطرف الذي وقع عليه الضرب، أو العنصر الذي كان موضوع الشراء. حين أقول (اشترى زيد) سأكون كمن أرسل برقيّة بكلام ناقــــص، وسيكون النحـــاة في هذا السياق كالبريدي الذي يعدّ الكلام ويحاسب ولا تعنيه مضامين نصّك ولا أرواح شخوصك السعيدة أو الحزينة. أنت لن ترسل برقيّة لشخص تحدّثه عن زيد لا يعنيه، يضرب عمرا لا يعرفه. سترسل إليه برقيّة موجزة فيها كلام عن وضعيّات حقيقية، وبالطبع لن تتحدث في برقيّة سريعة إلى مخاطبك عن أن زيدا أكل تفاحة، إلاّ إذا كان الكلام عن زيد والتفاحة في البرقية مفيدا أو ملغزا مرمزا.
لكن تصوّر أنّك ستضبط الكلمات بحركاتها: ستشكلها، هل حين تشكل الكلمات في البرقيّة سيزيد ثمنها؟ هذا سؤال يمكن أن يدور في خلد البريدي وربّما قال بينه وبين نفسه لماذا هذا الوجع للدماغ في برقيّة مفهومة بلا شكل؟ طبعا سيقول ذلك بلغته البسيطة التي قد يحنّ إليها اللساني.
إن كانت الكلمات المشكولة أغلى من الكلمات غير المشكولة، سيفكّر الناس في أن يكتبوا بلا شكل كلمات برقياتهم، سيجدون في توفير الحركات اقتصادا. وهذا ما حدث فعلا في تاريخ كتابة العربيّة، بعد اكتشاف الحركات وضبط رموزها. تهجر الحركات في الكتابة العاديّة لأنّ كتابتها بلا شكل أقلّ كلفة من كتابتها بها. من قال إذن إنّنا ونحن نكتب لا نفكّر في أثمان الكلمات؟
من يرسل البرقيّة هو من يدفع ثمن الكلمات، لكن من يشتري الكتب هو الذي يدفع ثمن الكلمات. لقد سَرَت القوانين على هذا الشّكل، لأنّ البرقيّات تواصل وإعلام يكون النفع فيه لمرسِله، بينما الكتب فنّ أو علم أو كلام تواصلي آخر يكون النفع فيه لمن أُرسِل إليه. المهمّ أن هناك توافقا ضمنيّا على من يدفع ثمن الكلام. كلّ هذا مفهوم ومعلوم ومتواضع عليه لكنّ للكلام ثمنا إدراكيّا أجّلناه لقيمته.
تطرح مسألة ثمن الكلام الذهني عادة تحت مسمّى الجهد العرفاني Cognitive Effort. من المعلوم أن أيّ معالجة ذهنيّة، لأيّ نشاط مهما كان بسيطا يكون ذا كلفة، حتى إن أفقدتنا العادة الإحساسَ بها، أو القدرة على قياس حجمها كما هو الشأن عن نشاط روتيني كالمشي أو الكلام أو الحديث. هناك حالات يصبح فيها ثمن الكلام أكثر كلفة من حالات أخرى؛ فحين أقول لك: صباح الخير وتجيبني: صباح الفلّ، أو صباحك سعيد فإنّ الكلفة الأدائيّة للتواصل، أو الجهد العرفاني الذي يدفعه كلانا سيكون قليلا؛ لأنّ ما يسمّيه غرايس بـ»مبدأ التعاون» (المبدأ الذي يُنجح تواصلنا اليومي) لم يكن ذا كلفة عالية. فنحن نتكلم لغة يعرفها كلانا، ونحن في مقام تُتبادل فيه هذه التحيّة بهذا الكلام، وأنّ هذا الكلام من فرط تداوله بات يصنّف في باب العبارات الجاهزة.
لكن تصوّر أن شخصا معيّنا ولنقل إنّه يسمّي نفسه تيمّنا شاعرا، وبدلا من أن يقول لحسناء ترافقه في القطار صباح الخير يقول: طلعت شمسك أجمل.. الحسناء ستتقبل كلامه في سياق تحيّة مختلفة عن المألوف، وستبذل جهدا في تفكيك شيفرتها، وأصعب ما في الأمر عندها ليس حوسبة دلالتها، بل ربط معنى كلام شاعر اليمن والبركات بالمقام. ربّما كانت كلمة صباح الخير على بساطتها أرفق حالا بحسناء تستقبل يوما رتيبا من العمل، ومن المشاغل اليومية يقول لها شاعر يريد أن يكون استثنائيّا: طلعت شمسك أجمل! وهو يقول هذا الكلام يعتقد أنّه استثنائي في الإبداع؛ وتعتقد هي أنّه أجهدها، قتلها تفكيرا بمضمون كلامه.. فقد كانت كلماته مكلفة لذهن متعب أصلا.. ربّما قالت في نفسها وهي تبتسم له: هل أنا ناقصة؟
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
السؤال بالنسبة لي، لماذا لا يكون، لأي كلمة ثمن، ألا تريد أجر أو راتب، مقابل أي منتج، من الوظيفة، أم لا؟!،
هو أول تعليق على طريقة تفكير وزاوية رؤية أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية د توفيق قريرة، الذي نشر مقال تحت عنوان (ثمن الكلمات) في جريدة القدس العربي، والأهم هو لماذا؟!
الإتحاد السوفيياتي، أفلس وتم تقسيمه في عام 1991، وأول الخاسرين، كان صندوق النقد والبنك الدولي،
في عدم استلام أي شيء من القروض بالمليارات، التي رفضت الدول الجديدة، تحمّل مسؤولية أخطاء موظفي النظام الشيوعي/الإشتراكي، التي طلبت تلك القروض،
في المقابل دلوعة أمه (دونالد ترامب) في مناظراته الثلاث، مع (هيلاري كلينتون)، في انتخابات عام 2016، أظهر تقصير نواب الشعب، حتى في النظام الرأسمالي، في طريقة صياغة القوانين، بلا تمحيص أو تدقيق أو تحمّل مسؤولية،
وهو استغل من خلال المحاسب القانوني والمحامي، ذلك التعارض في النصوص القانونية، من أجل عدم دفع ضرائب للدولة، على تعاملاته التجارية طوال 18 عشر عام،
وبدل أن يتم ارساله للسجن، على الإعتراف، تم تسلميه كرسي السلطة،
والفضيحة أن عدد من صوّت لهيلاري كلينتون كان أكثر من عدد من صوّت لدلوعة أمه، تكراراً لما حصل عام 2000 مع آل غور،
فمن ضحك على من، أو من كان أخبث مِن مَن، هنا، سبحان الله؟!??
??????
يقال الطبع غلب التطبع و الطبيعة غلبت التطبيع. يا لدقة اللغة العربية، فالكمامة ليست القناع في العربية بينما في الإنجليزية القناع كلمة واحدة تتستعمل لكافة استخدامات القناع من التنكر إلى الاستخدام الطبي، هل الكمامة من اشتقاقات مجامع اللغة العربية؟ يا للبراعة إذن.
لكوني مختص بعلوم اللسانيات التنظيرية من جامعة دبلن..فان ما جاء في المقال يحتاج الى الكثير من الدقة الاصطلاحية.وليس صحيحا
ان الجهد العرفاني يحتاج الى كلف ومعالجة ذهنية الا في حالات خاصة.
هذه ليست كتابة الأخ حي يقظان بالتأكيد ،
ولكن من عبث المدعو “عبدالله العقبة الماجستير” الذي يحاول تقليده بين حين وآخر ،
يرجى أخذ العلم لأنكم تعلمون جيدا بأن هذا المدعو قد كرر هذا من قبل