يقدم جعفر طاعون معرضه الفني المشترك مع أدونيس في قاعة الأندى في عمان وهو كتاب من أربع وعشرين صفحة من الرسم الطباعي، إذ سيلتقي الشعر والرسم في إحاطة تعلوها جمالية الأشكال المنجزة بتزاوج بين مدرستي (التعبيرية التجريدية) مع لمسات الشعر وما يتدفق منه من منابع احتفاء ولقاء ليصنع الاثنان (طاعون وأدونيس ) لوحة متكاملة تترك المتلقي مرتقيا بخياله وتأمله إلى بواعث إيقاع روحي يمليه هنا ضرب من الأسلوبية في بناء وتكوين اللوحة مع تواشج النص الشعري، وبما أن مهارة الفن تضاعف من رؤيتنا البصرية، فقد اشترطت تلك المهارة أن يكون الأداء مكسبا جماليا لا يمكن وصفه إلا بدقة متناهية، وهذا ما يجعل المتلقي يحيط بكل تلك التكوينات والخطوط وانسجام التوازن التعبيري، مع ما تحمله الخطوط والألوان والأشكال التجريدية، من مثالية وأنساق متخيلة هي أقرب إلى محمولات عاطفية على نحو يذكرنا بما قاله بول كلي في كتابه «نظرية التشكيل» من أن (العمليات المتبعة لخلق الشكل هي في الأساس عمليات بنائية بالكامل) وهذا ما يلتزم به جعفر طاعون في اختياراته من الرسم المصاحب لنص أدونيس الشعري..
أربعة وعشرون عملا تكونت بانسجام وتتآلف مع إربع وعشرين قصيدة كل عمل فني بدا لنا منفردا بمدلوله التعبيري بحيث يتجرد المعرض من وحدة موضوعية، وكأن اللوحة الواحدة معرض متكامل ترتبط الرؤية الجمالية هنا بما توزعه محددات الطريقة البنائية للعمل، لنجد وظيفة الرسم المتشكلة بصورة مرئية تنقاد إلى وظيفة الشعر وما ينتج عنه من سمات شعورية وحسية، وهذا التوازن يقتضي في النهاية إيجاد هوية مشتركة بين الرسم والشعر، وفقا للمطابقة والمبادلة وتتبع طريقة ذلك الانسجام، وبما أن العمل الفني الذي أمامنا ينفلت من حماسه وانفعاله، ليبدو عفويا إلا أن القصيدة في بنائها الخطي بدت هي الأخرى إيحاء مركبا ممزوجا مع الرسم، وكأن أدونيس يشارك بشعره (رسما) لإعطائه وظيفة دلالية قوامها الفعل البصري وليس القرائي وهذا ما يحيلنا إلى دروس علم الإشارة التي تركّز على التنوع، فهناك الإشارات المنطقية والانفعالية، وهناك في الجهة المقابلة الإشارات التعبيرية والفهم، وإذا نبهنا بيير جيرو لوجود تناسب بين مختلف الشيفرات وطرق تقنياتها ودرجاتها فالتلازم الحاصل بين لوحة طاعون وأدونيس سينبهنا إلى ما أعلنه بيير جيرو، من أن (الإشارة منشط أي جوهر حساس صورته الذهنية مشتركة مع تفكيرنا ومرتبطة بمنشط آخر، وهذا ما يحصل بين مدلول الشعر، والوحدات الصورية داخل اللوحة، فعمل جعفر طاعون مرتبط بوحدات بنائية مركبة (كائنات بشرية وحيوانية/ وأقدام منفصلة عن الجسد الآدمي/ كراسي وأدوات ثانية) اعتمدها وفقا لرؤيته التي تصب في التعبيرية، وحتى البواعث الصوفية ليأتي أدونيس محاكيا لكل تلك العناصر (اللون.. الخط.. تداخل الأشكال في ما بينها والعلامات الناشئة في متن اللوحة) ورغبة أدونيس هنا أنه لا يريد إغلاق اللوحة مثلما نرى في بناء شكل القصيدة، لتكون محاطة بجوانب العمل الفني ومتنه، بل هناك محاورة وتأملات تتحقق في نقطة مشتركة يتنبه إليها من يرى صورة العمل عن قرب، وهي ما يسميه (بول كلي) المسار الذي تقطعه، وقد ترتفع من المستوى البصري الوصفي إلى مستوى التفسير الوظيفي، وحسنا أن جعفر طاعون وجد طريقة أسلوبية تعلي من التكثيف الصوري لتكون قواعد اللعبة البصرية أبعد عن العشوائية والتكرار، ما يجعلها محملة بطابع حسي وتأملي، فكيف تبدو رؤية كهذه أمام المتلقي، هل سيكون الاشتغال بينهما انتقالة على مستوى إبداء القدرة الكبيرة للبنائية المتوحدة بين الرسم والشعر وهل يمكن أن يلتقيا في فاعلية تعبيرية تطرح مضمونا مشتركا؟ لا تبدو محاولة جعفر طاعون غريبة علينا، فقد خبرناه فنانا مثابرا ينتج فنا مختلفا ضمن طرائق أسلوبية مميزة، أحيانا يقترب مما هو ذو طابع خاص كأن يحاكي الشعبي ذا الطقوس الروحية والتراثية، وأحيانا يذهب إلى النسق الثقافي الصوفي، ويستل منه موقفا ليكون عنوانا لمنجزه ويأخذنا عبر رحلة بحث فنية وجمالية إلى أكثر المواقف الملتزمة بقضايا الإنسان وما يحيطه من مغامرة وجودية حتى إنه مارس لأكثر من لوحة تكرار (الفيكرات) ليعطي انطباعا بمدى التوافق بين نمط العمل الواحد، ويبدو الظاهر أنه يستهوي اكتشاف قراءتنا للوحته، وإذا فسرنا ذلك فسيكون الواضح أنه ينتج عملا يلامس طاقة الإنسان روحيا، لكن عبر (التأمل والتفسير وليس التلقي والتبصر). هذا السياق المختلف يمكن أن نعده مجازفة شكلية بصرية مع قراءة تلتبس فيها طرق كشف الدلالة، لأن ملخص ما تعكسه الإشارات والعلامات في المتن الصوري تحفه غاية تميل لتمثيل مكثف لونيا ومعمق موضوعيا، وإذا أراد أدونيس أن يستل من اللوحة تمثيلها المجازي فقد فعل جعفر طاعون ما هو أبعد من ذلك، حيث جعلها تتحول عبر تفاصيل وعناصر بنائها إلى فعل ينشط من خيال المتلقي، إذن هناك ارتباط تعمل عليه طاقة الرسم ضمن تنوع الخطاب الفني، من خلال مرتكزات وجود المنمنات الشرقية ووجود عمل يجمع بين التعبيرية والتجريد ويتجاوز حيوية مجال التحول من البصري إلى القرائي وسنرى أن الهيئات الموجودة في اللوحة تندمج وتنصهر بحدود الرمز الشعري، ونتوصل هنا إلى أن المرسوم شعريا يوثق مقابل التركيب البصري، وفقا لمستويات جمالية ودلالية تقتضي ضرورة الشعري أن تكون اللوحة بهذا النمط من الحيوية الخاصة، ونتساءل هل توجد فواصل وحدود بين (الرسم والشعر) في هذا المعرض؟ وما الذي يعززه (كيان رمزي صوري) لننجذب إليه في ما يجمع الاثنان على إتاحته للمتلقي، يبدو أن مهمة العناصر في اللوحة لم تكن توضيحية، بل بدت عبر تشكيلها مجتمعة تضفي تنوعا دلاليا مختلفا، عمل النص الشعري على تجريدها فبات تأويل الشعر والرسم مجتمعا.. فالتوالد والتشاكل بات بينهما وبين المرجع الشعري، تناص ومرجعيات مشتركة وهذا ما تنبه إليه أدونيس ليجعل لكل عمل فني قراءة شعرية تتحرر من سياق التكرار، وتحقق موازنة تنقاد إلى تصور يلائم فكرة الرسم.. علينا أن نهتدي إلى البصري قبل القرائي، فالكلمات تحضر ضمن سياقها الدلالي بينما الوحدات والعناصر في متن اللوحة تتعالق ضمن مستوى جمالي منغمس بمرجعيات واقعية، وحالات صوفية، ولا بد في هذا الحد أن لا نتجاوز العبور لأي مجال حيوي يسمح لخطاب الشعر أن ينافس خطاب ما هو بصري، لأن الانتصار في الأخير سيكون لقوة العلامات والإشارات البصرية وهذا ما يجعل الرسم في انتصار دائم أمام النص المكتوب والمقروء.
كاتب عراقي