نحن أمة عانت في تاريخها الطويل وربما عانت أكثر في كتابة هذا التاريخ، فكلما تم توثيق حقبة أخضعها موثقوها إلى ظروف الزمان والمكان، وكلما صدر مؤلف عكس تأثر صاحبه بقناعات شخصية أو ميولات جماعية. وإذا كانت مرحلة ما بعد الحروب يكتبها المنتصرون فإن لكل مرحلة رجالا، بعضهم يصنعون الحدث وآخرون يضحون من أجل توثيقه. استوقفتني قراءاتي مؤخرا عند كتاب بعنوان ‘ثورة أمة’ لصاحبه أنور ملك، فأول ما يجذب القارئ لهذا الكتاب طبعته الراقية في إصدارها الأول، لكن سرعان ما يكتشف أن كل صفحة فيه تصلح لأن تكون كفن شهيد، في كل حرف ألم، في كل كلمة أنين، ومن كل سطر يقطر الدم وتختلط مشاعر الحزن والرعب. إن ‘ثورة أمة’ أسطورة مقتبسة من واقع الرحلة التي قام بها المؤلف، مراقبا ضمن بعثة جامعة الدول العربية، شخصياتها حقيقيون تبادلوا الأدوار أحياءً وتقاسموا الشهادة لاحقا، وأزعم أن هذا الكتاب وثق لمرحلة تاريخية مهمة من العصر الحديث، تـُدرج ضمن مسار الثورة السورية؛ بعيدا عن كل الحسابات والخلفيات التي قد يدعو أو ينتصر لها أي موثق للأحداث، وهذا بكل بساطة لأن الكاتب انتصر للحقيقة التي عايشها ووثق الشهادات المكتومة، في ظل تعتيم كلي عما حدث في تلك الأيام، كيف لا؟ وهذا التوثيق لا يحيد عن التفاصيل التي تابعها جيـلنا يوما بيوم حينما كانت أعين العالم كلها مسمرة على أحياء حمص المحاصرة. كنت عازما على كتابة رأي حيادي، لكن وجدتني أنحاز لهذا التوثيق الوحيد الذي صدر في شكل مؤلف مطبوع، ولمن أراد أن يطلب من المؤلف أيضا أن يكون حياديا فليعلم أن الكتاب منحاز الى الحقيقة، وأن علم الثورة السورية يرفرف في بداية كل فصل بالكتاب، بل إن المؤلف المراقب لم يستطع أن ينفصل عن إنسانيته وهو يلمس رضيعا يتضور جوعا، وهو يقابل عجوزا مرتعبة، وهو يواجه النار خلال محاولة اغتياله، حتى إن ملاحظاته لم تغفل الحيوانات التي هجرت حي بابا عمرو، خوفا على حياتها. يعيش القارئ لرحلة أنور مالك تفاصيل المكان والزمان عندما يسير خطوة بخطوة في موازاة الأحداث التي يعكسها وقتها تفكير المؤلف نفسه، ورغم أن الرواية تلازم مسارها إلا أن هذا لم يغفل تطورات أحداث جانبية أخرى، وبين الحروف والكلمات نتلمس شخصية الناقم على الظلم والاستبداد، والثائر المتلهف لما يحدث في بلاد الربيع العربي. وعلاوة على هذا فإن شهادة المؤلف تؤكد أن الطائفة المسيحية في حي باب السباع لم تكن بعيدة عن قناصة النظام، كما أنها لم تكن في منأى عن الثورة السورية، وأن الثورة كانت شعبية فصوروها طائفية، وبدأت سلمية فحولوها عسكرية، وحي باب السباع هذا هو ذاته الذي ضم عائلات علوية كانت تناصر جيران الحي وتطالب بإسقاط النظام وعتق الحريات، ولا يمكننا ونحن نقف أمام ثورة الأمة بكل إيجابياتها وسلبياتها أن نغفل ما ذكره الكتاب عن شباب ولدوا من رحم هذه الثورة، هؤلاء الذين جمعوا صفات التحدي والإصرار، وتحلوا بالأمل والتفاؤل وهم يبذلون أرواحهم فداءً للحرية. منذ أن أعلن أنور مالك استقالته ‘أو انشقاقه كما يحلو أن يصفها البعض’ أثارت شخصيته الجدل الكثير، وخاضت أنامل المنتقدين والمادحين معارك طويلة بين من يريد أن يقدمه بطلا جازف بحياته، ومن نعته بأسوأ الأوصاف بلغت حد العمالة والجاسوسية، لكنني أرى أن الرجل مغامر لا مقامر، يحسُب وينفذ، ومن دون شك فهو من بقايا أولئك الشاوية ‘من أحرار الجزائر’ الذين لا يردهم التهديد والوعيد لو رأى أنه على حق، وفي ما يبدو من خلال توثيقه أن الحياد في نظره يكمن في الوقوف إلى جانب الحقيقة والتخندق في صفوف الضحايا، وليس بعيدا عن شعور القارئ أن يلمس شخصية ثورية تتوشح قلادة حقوقية.. وهي شخصية المراقب رقم 92. سبق لأنور مالك أن ألف ثلاثة كتب وكلها ولـوج بين الأشواك، لكن الكتاب الأخير شيء مختلف، فقد يبدو أنه خاطر بحياته عندما تبرأ من التزوير وهو حينها لا يزال في مدينة حمص، لكنه في الحقيقة ألقى مصيره في المجهول عندما غادر بيته في فرنسا تاركا زوجته حاملا في شهرها الخامس، وتثبت الوقائع أن فريق المراقبين العرب في أحياء حمص المحاصرة غامر بحياته مرات عديدة، لاسيما عندما أشرف على إجلاء العساكر المتحصنين داخل المؤسسة الغذائية في حي بابا عمرو. تحديات كثيرة عاشها فريق المراقبين بين مواجهة الموت ومعاملة قمعية وتشويش نفسي، ولا يخلو الأمر من اتهامات سيقت لرئيس البعثة شخصيا؛ وأقلها انه تعامل مع المراقبين ‘حقوقيين وضباطا’ على أنهم فريق للكشافة، ونستبعد أن نقرأ شهادات لبقية المراقبين في المرحلة الراهنة على الأقل، لأنهم موظفون لدى حكومات عربية. لقد قيل إن الكتاب خير جليس في الزمان، وقيل أيضاً إن الكتاب خير رفيق وحافظ للأسرار، وأقول إن كتاب ‘ثورة أمة’ هو كتاب المرحلة وأول وثيقة سيوّرثها جيل هذا العصر للأجيال المقبلة، وإلى حد الآن لم نقرأ ما يفند ما جاء فيه من معطيات كنا جميعا شهودا على وقوعها. قد يقال إنها شهادة بعين واحدة، وأقول ‘من لم يصبر على مرارة الثورة يوما تجرع ذل الاستبداد طول حياته’، لتبقى الإشارة أخيرا إلى أن هذا الكتاب موقع باسم مستعار عن صاحبه، فهل مازال الكاتب مصرا على التأليف باسمه الثوري؟ مذيع في قناة ‘فرانس 24’
انا طالعت كتاب ثورة أمة والحقيقة ان سحرني بطريقة كتابته واسلوبه السهل والممتنع والله يجعلك تعيش كأنك مراقب بينهم أو حتى من ثوار باباعمرو. نشكر كسوريين الأستاذ أنور مالك على مواقفه التاريخية التي سندرسها لأبنائنا والشكر الآخر لصاحب المقال الأستاذ بوعكاز الذي بدوره تشم منه عبق الثورة والثورية.
العمل التوثيقي من وحي التحدي للذهن العربي الذي اعتمد على المشافهة دون دراية واكتفى بالعنعنة دون تأن وروية، وما يكتبه الإعلامي استاذنا عبد الفتاح بوعكاز عن كتاب الحر الكبير الاستاذ أنور مالك هو إشارة إلى توضيح ماحصل ونشر فكرة التوثيق القادر على الاستهداف الإيجابي للتاريخ دون تأطير او تحيز شكرًا لمالك على ما ملكنا من أنوار الحقائق وشكرا للأستاذ عبد الفتاح بوعكاز الذي أصر على إنسانيته وعلى دعم القضايا العادلة والشكر للأستاذ عبد الباري عطوان فهو بحق شامة في الإعلام العربي .
مقال جميل من كاتب أجمل عن كتاب رائع ومؤلف أروع
انا طالعت كتاب ثورة أمة والحقيقة ان سحرني بطريقة كتابته واسلوبه السهل والممتنع والله يجعلك تعيش كأنك مراقب بينهم أو حتى من ثوار باباعمرو. نشكر كسوريين الأستاذ أنور مالك على مواقفه التاريخية التي سندرسها لأبنائنا والشكر الآخر لصاحب المقال الأستاذ بوعكاز الذي بدوره تشم منه عبق الثورة والثورية.
العمل التوثيقي من وحي التحدي للذهن العربي الذي اعتمد على المشافهة دون دراية واكتفى بالعنعنة دون تأن وروية، وما يكتبه الإعلامي استاذنا عبد الفتاح بوعكاز عن كتاب الحر الكبير الاستاذ أنور مالك هو إشارة إلى توضيح ماحصل ونشر فكرة التوثيق القادر على الاستهداف الإيجابي للتاريخ دون تأطير او تحيز شكرًا لمالك على ما ملكنا من أنوار الحقائق وشكرا للأستاذ عبد الفتاح بوعكاز الذي أصر على إنسانيته وعلى دعم القضايا العادلة والشكر للأستاذ عبد الباري عطوان فهو بحق شامة في الإعلام العربي .