قبل أيام هلت الذكرى الخامسة لثورة السودان المغدورة، والتي لازمها الغدر منذ لحظة الإطاحة برأس النظام السابق. فمنذ تلك اللحظة، ظل ساعد الغدر ومحاولات إجهاض الثورة يشتد ويقوى، متغذيا على حقيقة أن انتصار الثورة ظل جزئيا وغير مكتمل بتوقفه عند الإطاحة بالغطاء السياسي لتحالف الاستبداد والفساد، بينما جسد هذا التحالف باق ينخر في عظام الثورة وينسج خيوط غطاء سياسي بديل، لينقض ويحكم من جديد بقوة الدم المسفوح. وكنا على يقين تام بأنه حتى إذا لم يتمكن جسد هذا التحالف من استرداد السلطة، فلن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي مدمر، سيكتسب الديمومة بفعل عدد من العوامل الداخلية والخارجية. فداخليا، من الصعب على تحالف الفساد والاستبداد أن يفرط في الثروات الضخمة التي راكمها خلال عقود الإنقاذ الثلاثة، وهي ثروات لم تُجنَ بكدح عرق الجبين أو بتدوير رأسمال متوارث، وإنما باستغلال يد السلطة في نهب موارد البلاد وسرقة أحلام مستقبل شبابها.
الدولة السودانية في طريقها إلى الانهيار ولن يمنع ذلك إلا وحدة وتماسك قواها المدنية، وهي وحدة مطلوبة الآن أكثر من أي وقت آخر
وفي ظل حقيقة أن هذه الثروات لم تُمس بعد الإطاحة بالبشير، وجرى استخدامها في التحضير الجدي للانقضاض، وأن الجرائم البشعة التي أرتكبت خلال حكم الإنقاذ ثم إبان حراك الثورة، لاتزال دون مساءلة أو عقاب بينما مرتكبوها لا يزالون في مواقع السلطة، ومع وجود قوة مسلحة ضمن هياكل السلطة الجديدة، والمفترض أنها شريك الثوار في الثورة، لكنها تدين بالولاء لتحالف الفساد والاستبداد، وعقيدتها القتالية الانتقام من الشعب ومن ثورته…الخ، في ظل وجود كل هذه الحقائق، كان استنتاجنا بإمكانية انقضاض تحالف الفساد والاستبداد على الثورة. وعزز من هذ الاستنتاج، استقطابات المحاور الخارجية وحربها بالوكالة على أرض السودان، حيث واصل بعضها تمتين علاقاته مع مجموعات واسعة تتشارك الرؤى وعموميات الفكرة، بهدف خلق غطاء سياسي جديد يعمل على الاستفادة القصوى من جسد تحالف الفساد والاستبداد الذي لا يزال متمكنا في مفاصل الدولة، تمهيدا للانقضاض على الثورة، بينما على الجانب الآخر اجتهدت محاور مضادة للانتصار لمصالحها، معلنة انحيازها للثورة، لكنها استخدمت تكتيكات أضرت كثيرا بالثورة. أما المحاولات العملية للانقضاض على الثورة فتجلت في مذبحة فض الاعتصام في يونيو/حزيران 2019، وفي انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ولكن أكبرها وأشدها إثما الحرب المدمرة والمندلعة منذ 15 أبريل/نيسان الماضي.
ومن واقع الحرب المرير، تبرز حيثيات وتزداد وضوحا كل يوم، منها: مع استمرار القتال والانهيارات والانسحابات المتتالية للجيش السوداني، تتضاءل فرص وقف إطلاق النار عبر التفاوض. وكلما طال أمد النزاع تمادت المجموعات المسلحة في التصرف مثل قطاع الطرق وعصابات الجريمة مع تجاهل تام لأي قانون أو حقوق إنسان. صحيح أن قوات الدعم السريع تتقدم عسكريا وتكتسب مواقع جديدة، لكنها لن تستطيع تحويل هذا التقدم إلى انتصار سياسي لافتقارها لأي مشروع أو برنامج بديل، وهي أبدا لم تكتسب ثقة المواطن أو قناعته بما يطرحه قادتها، وذلك حسب سلوكها البربري المعادي للمواطن العادي. وكلما زادت وتيرة استنفار المدنيين، اكتسبت الحرب طابعا قبليا أكثر، وارتفعت حدة النزاعات القبلية/العرقية. ومخطئ تماما من يعتقد أن السلام والاستقرار يمكن أن يحققهما لقاء بين البرهان وحميدتي أو اتفاق بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. صحيح أن طرفي القتال يجب أن يكونا جزءا من آليات وقف إطلاق النار، لكنهم يجب ألا يكونوا أبداً جزءاً من أي تسوية سياسية جديدة، وإلا أعيد إنتاج الأزمة. فهذه يجب أن يتم التفاوض والاتفاق حولها وتنفيذها، بواسطة المدنيين السودانيين في عملية شاملة، مهما أخذت من وقت، ومهما بدا من تشظ وسط المدنيين فهذا التشظي سينتهي عاجلاً أم آجلاً، شريطة أن تعي القوى المدنية أن استمرار تشظيها في ظل استمرار هذه الحرب حتما سيدفع بالدولة السودانية إلى الإنهيار، وشريطة أن يرفع اللاعبون الإقليميون والدوليون أيديهم عن نشاط هذه القوى. أما المبادرات الحالية، الدولية والإقليمية، فإنها ستفضي إلى طريق مسدود ما لم تتم إعادة النظر في تركيبتها ومحتواها. ومن زاوية أخرى، فبسبب هذه الحرب اللعينة، تتعاظم معاناة السودان نزيفا رهيبا لعقوله وسواعده، والتي أصلا ظلت، وعلى مدى عدة عقود، تتعرض لصدمات كبيرة وشروخ نفسية عميقة، مما يؤثر سلبا في إعادة بناء البلد.
الدولة السودانية في طريقها إلى الإنهيار، ولن يمنع ذلك إلا وحدة وتماسك قواها المدنية، وهي وحدة مطلوبة الآن أكثر من أي وقت آخر. وفي هذا السياق، أعتقد أن مخرجات الاجتماع الأخير للمكتب التنفيذي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، نيروبي 17-20 ديسمبر/كانون الأول الجاري، لا تتماشى مع الإيقاع المتسارع للكارثة في البلاد بعد تمددها إلى «ود مدني»، كما أنها تتباطأ في تحقيق وحدة القوى المدنية، عندما قررت تأجيل عقد المؤتمر التأسيسي من نهاية الشهر الجاري إلى أواخر فبراير/شباط المقبل دون توضيح أسباب ذلك في البيان الصادر عن الاجتماع. الأمر يحتاج إلى تدابير غير تقليدية تتخطى هذا التباطؤ، ومباشرة أقترح أن تتنادى قوى «تقدم» والجبهة النقابية ولجان المقاومة/غرف الطوارئ والضباط المعاشيين من القوات النظامية وأي من المكونات المدنية الأخرى، بمبادرة من أحد أطراف هذه القوى، وبعيدا عن التدخلات المباشرة للقوى الإقليمية والدولية، لتشكيل مجموعة عمل تتوافق حول رؤية لوقف الحرب وتذهب بها إلى لقاءات مباشرة مع طرفي القتال والمجتمع الدولي والإقليمي، وفي الوقت ذاته تشكل هذه الرؤية مادة لتنظيم مقاومة شعبية داخل البلاد ضد الحرب ومحاولات وأد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.
كاتب سوداني