سلمت تونس مما وقعت فيه الجزائر من استعمار بغيض، مسخ اللسان والتاريخ ونهب الأرض وخيراتها، وجعل أبناء الشعب خدما عنده، فالحماية على تونس غير الاحتلال في الجزائر، ولو أن تونس عرفت محاولة الإذلال الفرنسية التي دفع التونسيون فاتورتها ثقيلة، فقرا وبؤسا وبطالة، خاصة بين الحربين العالميتين، وقد وصف حالة البؤس تلك الكاتب التونسي الرائد الطاهر الحداد، عقب الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929: «ما أخطر وأتعس الحياة التي نقطعها اليوم، ويظهر أنها لا تزال تنمو مع الأيام إلى أفظع ما نقاسيه اليوم، فقد عض البؤس بأنيابه الحادة المسمومة روح الأمة وجسمها المنهوك، فلا ترى إلا منظرا أسود يملأ العين حزنا وغما، ووجوها مصفرة تعلوها كآبة خرساء، وهياكل شاحبة أضناها الجوع وضعف مواد العيش، الذي يقتاتونه وثيابا بالية ومرقعة بكل الألوان وأكثرهم متسولون».
وفي تونس العاصمة وفي حي شعبي ولد علي الدوعاجي عام 1909 الذي قدر له أن يكون رائد القصة التونسية القصيرة في أسرة متوسطة، وقد عرف اليتم في صغره، واكتشف في نفسه مبكرا ميولا فنية وأدبية وميلا إلى الحرية والانطلاق، فاعتمد على نفسه في تحصيله الأدبي، وأسلم في صدر شبابه نفسه إلى حياة اللهو والكسل والمرح والقراءة، كذلك اعتمد على ميراث من والديه يتعيش منه.
وفي الثلاثينيات والأربعينيات نشطت جماعة «تحت السور» وهي جماعة أدبية غير رسمية تأسست في مقهى «تحت السور» في باب السويقة شأن المقاهي الأدبية في المشرق، وكانت تتـابع إبداع الرابطة القلمية والديوان وأبولو، وتطالع شيئا من أدب الغرب، وتلك المجموعة هي التي قدر لها أن تقود الحركة الأدبية والثقافية في تونس في القرن العشرين. وكان من تلك الجماعة علي الدوعاجي ومحمد العريبي وعبد الرزاق كرباكة ومصطفى خريف ومحمود بيرم التونسي.
ترك الدوعاجي إنتاجا غزيرا في القصة جمع بعضه في مجموعته «سهرت منه الليالي»، والأزجال والتمثيليات وكتابا صغيرا الحجم في أدب الرحلة عنوانه «جولة بين حانات البحر المتوسط».
والهامشي شخص يعيش على الحاشية ويأبى أن يندمج في الحياة العامة والثقافية، خاصة إنه يرفض التراتبية وسلم القيم والطابع الاستعراضي للثقافة، أو التسلق عبرها كما يكره أشد الكراهية كل ألوان الرياء والمداهنة وآداب اللياقة، مع ميل إلى الكسل وكراهية العمل باعتباره ربما أداة للاندماج في المجتمع، ويكره في المجتمع تراتبيته وتقاليده وكل أشكال الإكبار التي يمنحها لمن يشاء، وفي تفسير الهامشية أسباب عديدة يرجع بعضها إلى الوضع الطبقي، أو التركيبة النفسية أو الحمولة الثقافية التي ترى في الثقافة شيئا غير المتعارف عليه، فالهامشي شخص حساس هش النفس، صاحب قناعات لا يتخلى عنها، وحالة رفض جزئي، أو كلي للبنية الفوقية والتحتية للمجتمع، مع ميل ظاهر إلى العزلة، أو الانطوائية، يعشق الوحدة في حالة أشبه بالوجد الصوفي، ولا يرجو شهرة ولا سمعة، ويتخذ من أدبه وسيلة للسخرية من تلك التقاليد، وتلك اللياقة وأشكال الرياء والتراتبية، ويعد أدب الهامش أدبا رافضا معطاء ثريا لأن الممارسة الإبداعية، تتم بعيدا عن السلطة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفيه نماذج رائعة من الابتكار والعطاء، على الرغم من أن الهامشي شخص ينتهي إلى تدمير ذاته بالإدمان، أو الانتحار، أو اللامبالاة التي تنتهي بصاحبها إلى الوقوع فريسة لداء عضال. وقد حلل الغذامي الظاهرة الإبداعية للشاعر الهامشي حمزة شحاتة في كتابه «الخطيئة والتكفير» وكيف اجتمعت الأسباب النفسية والاجتماعية على جعله هامشيا. وفي الكويت عرفت الساحة الأدبية هامشيا كبيرا هو فهد العسكر، الذي لولا صديقه عبد الله زكريا الأنصاري، الذي جمع بعضا من شعره وسيرته ما عرفه أحد، وفي مصر يعد عبد الحميد الديب، رائد أدب الصعلكة في مصر الحديثة وفي العراق من يجهل القيمة الإبداعية لشعر عبد الأمير الحصيري، وحسين مردان؟ فبقدر ما كان الهامشي هداما وفوضويا وكسولا حمل أدبه تجديدا وإبداعا وثورة على كل المضامين الاجتماعية والثقافية والسياسية.
فلا حياة إلا مع الورق والقلم، في صحبة كأس ووتر، وتلك هي بصفة عامة خصائص حياة البوهيميين، وفي رحاب تلك الجماعة اشتهر الدوعاجي وكان الإبداع والبوهيمية هما ميثاق شرف الجماعة، وكانت الحميمية والتحرر والقراءة لروائع الأدب العربي والغربي، والكتابة الشعرية والنثرية، سلوانا لهم من حياة الشظف والبطالة والمراقبة الاستعمارية، ومن حالة البؤس التي يحياها المجتمع نتيجة الحربين العالميتين، والاستعمار وتبعات التخلف والطبقية وقد تسموا بعدة أسماء، كعسكر الليل، جماعة البوهيم، إخوان الصفا، إخوان البوهيم، وقد أصدروا مجلات أدبية وفكرية كمجلة «السرور» التي أسسها الدوعاجي، و»الشباب» لمحمود بيرم التونسي و»تونس» لمصطفى خريف و»العالم الأدبي» لزين العابدين السنوسي، وسرعان ما تتوقف تلك الجرائد نتيجة لتضييق السلطات الاستعمارية، أو الحالة المادية المزرية التي تؤول إليها الجريدة.
لم يمارس الدوعاجي عملا مكتفيا بما ورثه عن والديه، ولكنه حمل قلبا حساسا وعقلا ذكيا ونفسا متعطشة للفن وللإبداع، وللحرية، وأسلم نفسه نتيجة اليأس من الواقع إلى الانحراف بتدمير نفسه، نتيجة العزوبية من جهة، والألم الذي يعتصر النفس نتيجة النكران والجحود من المجتمع من جهة ثانية، وقسوة الظروف فتعاطى المخدرات لتناسي الجرح، وسمى نفسه الفنان البائر، وساءت حالته الصحية، فتوفي وحيدا في المستشفى في تونس عام 1949 في حين مات صديقه محمد العربي منتحرا بالغاز في باريس عام 1946. ترك الدوعاجي إنتاجا غزيرا في القصة جمع بعضه في مجموعته «سهرت منه الليالي»، والأزجال والتمثيليات وكتابا صغيرا الحجم في أدب الرحلة عنوانه «جولة بين حانات البحر المتوسط».
بقدر ما طرد المتن الثقافي (المركز) الهامش (الحاشية) ووسمه بسيماء الانحراف والتمرد على القوانين الإبداعية والثقافية والدينية اغتنى المتن بتلك التجارب الإبداعية، لأنها صارت رافدا ثقافيا كبيرا للثقافة الرسمية التونسية، وبقدر ما ظل المشرق يطمئن إلى صدارته ومركزيته منذ أن كرس الصاحب ابن عباد المركزية المشرقية، في جملته المشهورة «بضاعتنا ردت إلينا «عندما تأمل كتاب «العقد الفريد»لابن عبد ربه شكل الأدب المغاربي عامة، رافدا كبيرا إبداعيا من روافد الأدب العربي الحديث والدوعاجي خير مثال على ذلك فهو خير نموذج لجدلية المركز والهامش في الأدب العربي الحديث، على المستوى التونسي خاصة والعربي عامة.
وأخيرا عرفت تونس فضل الدوعاجي وقدره، ولو بعد حين فبوأته عرش القصة القصيرة، وهو بلا ريب جدير بها وجدير بكل احتفاء كرائد من رواد التحديث في الأدب التونسي الحديث.
٭ كاتب جزائري