بينما يرثي الشرعيون في مصر لاغتصاب شرعيتهم بانقلاب ظالم غاشم على حكومة ناجحة ومحبوبة، يهنىء الشرعيون في تونس أنفسهم كل يوم على شرعيتهم الواضحة وضوح البديهيات، ويعربون كل ستة أشهر عن بالغ اندهاشهم وعميق حزنهم لسقوط ضحية جديدة من ضحايا الاغتيالات السياسية المتماثلة التي تشاء الصدف دوما أن لا يكون أي منهم من آباء الشرعية أو أبنائها أو المتيمين بحبها أو حتى المقيمين في جوارها. ضحايا من الضفة الفكرية الأخرى العاجزة حتى اليوم عن إدراك مكمن الجمال الديمقراطي في هذا الخضم الفوضوي المتلاطم من الرداءة الإدارية الشرعية والقبح السياسي الحلال.
الشرعية في مصر: مظلومة، يا ناس، مظلومة. أما في تونس، فإن الشرعية لا تزال في منعة من قومها ومموليها وفتيانها من ذوي السوابق العدلية المحدثي النعمة الدينية، أولئك الذين أسلموا في غفلة من الزمن الاجتماعي فحسن إسلامهم وفشا زاعقا هادرا متوثبا لسباب أو عراك أو قتال أو.. اغتيال. ثم إن النص محفوظ عن ظهر قلب: كلما سقط شهيد جديد من صفوف النقّاد المجاهرين بالحقائق المزعجة، قال الحكماء: ابحثوا عمن له مصلحة في مثل هذه الاغتيالات. ما هي فائدة النهضة من اغتيال ساسة تعرف أن أصابع الاتهام ستوجه إليها فور سماع نبأ اغتيالهم؟ أفلا يكون هذا من تدبير من يستهدفون تجربة الانتقال الديمقراطي بالتقويض ويريدون بالشرعية، أي بالنهضة قبل سواها، كل سوء؟
الجديد في النص هذه المرة أن ساسة النهضة قد حملوا مسؤولية اغتيال مؤسس ‘التيار الشعبي’ اليساري القومي محمد البراهمي، الخميس، للأطراف التي تريد ‘استنساخ السيناريو المصري في تونس’. فإذا علمنا أن النهضة أوكلت إلى أتباعها من خطباء الجمعة في الفترة الأخيرة أن يعظوا التونسيين بأن مرسي رئيس شرعي وبأن الانقلاب عليه حرام، تبين أن حكام هذا العهد لم يعودوا قادرين على إدراك واقع بلادهم إدراكا مباشرا، كما لو أن شرعية الحكم الإخواني في مصر، أو لاشرعيته، هي أم القضايا الحيوية لمستقبل الصلاح والفلاح في تونس.
وأيا يكن الأمر بالنسبة للمسؤولية الجنائية المباشرة، فإن اغتيال محمد البراهمي يؤشر إلى تحول خطير في ثقافة جزء من الطبقة السياسية في تونس: تحول نحو الأخذ بالعنف والقتل أسلوبا في تسوية الخلافات وإسكات الخصوم. تحول مفجع مفزع يخشى أن يكون نهائيا. لهذا لم يعد يعني شيئا أن يقال إن المجتمع التونسي مسالم ومعتدل ومتعلم، الخ. إذ إن كل الوسائل أصبحت مقبولة ومبررة لدى من هم في فراش سلطة (مؤقتة حسب ظن حسن) تتعاظم شهوتهم إليها كلما تعاظمت نشوتهم بها.
وهكذا إذا كانت الثورة ميالة، حسب القول الشهير، إلى أن تأكل أبناءها، فهل من الصدف أن الشرعية عندنا لا تأكل إلا أبناء غيرها؟ استشهاد محمد البراهمي فجيعة وطنية، زاد من تراجيديتها أنها وقتت -عن عمد واضح الدلالة- ليوم عيد الجمهورية. فجيعة وطنية ولكنها تتيح للتونسيين، نظريا، فرصة ثانية للتخلص من هذه الشرعية الثقيلة الجاثمة على الصدور كأنها الخطيئة الأولى. أما الفرصة الإنقاذية والتصحيحية الأولى فقد كانت مؤاتية عند استشهاد شكري بلعيد قبل ستة أشهر، ولكن التونسيين بددوها.
THANK YOU
حبذا أن تتحدث عن الثورة الجزائرية كيف أكلت أبنائها بعدما كان العهد بين المجاهدين أن تقوم الدولة على أساس ثوابت الأمة.
العجب أن نراك تنظّر للبلدان الأخرى وأنت تدعم الإسلام الصوفي البدعي في الجزائر