حلت منذ أيام ذكرى ثورة 30 يونيو 2013 السادسة، التي ترتب عليها عزل الرئيس مرسي ممثل حزب «الحرية والعدالة»؛ الجناح السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»، وذلك إثر احتجاجات ومظاهرات غطت مصر.. واختلفت حولها مواقف وآراء جماعات وأحزاب «الإسلام السياسي»؛ ذات الطبيعة الطائفية والمذهبية المحافظة، وكانت على مدى تاريخها تتوجس من الثورة والتغيير الشامل، ومالت للترقيع والغلو والعنف في تعاملها مع مخالفيها.
وبدا إغراء المال ومذاق السلطة ونشوة الحكم قادراً على تغيير المواقف الثابتة والعقائد الراسخة لهذه الجماعات والأحزاب، ووجدنا منها من رفع شعارات ثورة يناير وأهدافها؛ «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية»، وكأن تيار الشارع الجارف قد غير منها بعد رفض وتَمَنُّع؛ ومع ذلك لم تقبل الاصطفاف مع القوى الثورية، ولا التعاون مع الجماعة الوطنية التي حركت الجموع من كل الألوان والتيارات السياسية والاجتماعية والثقافية والمهنية والدينية.. وحدث ذلك التغيير من الأسبوع الأول لثورة يناير 2011.. وبدا ذلك تراجعاً عن قرار اتخذه «مكتب الإرشاد» بعدم النزول للميادين والشوارع ورفض الاشتراك في الثورة.
وعُدَّ ذلك تغيراً في سنن هذه الجماعات والأحزاب منذ تأسيس جماعة الإخوان عام 1928، ومراوحتها بين السرية والاغتيالات السياسية، ولا يعنى ذلك نبشاً في مقابر التاريخ، إنما يعني التعرف على التغيير الذي صاحب الثورة ومداه؛ وإن بدت هناك رغبة في النسيان، إلا أن «حادث المنصة» الذي أودى بحياة السادات عَلِق في أذهان المخضرمين والمطلعين على خفايا هذه الحقبة، ولم يكن عملاً عشوائياً ولا فردياً، وكان عملاً مخططاً وتم تنفيذه بدقة من خالد الإسلامبولي ومجموعته، وقد استهدفوا أكبر رأس في الدولة، وجمعوا بين المهنية العسكرية والانتماء الفكري لأحد التنظيمات الجهادية النشطة؛ رغم حداثتها، وما أتيح لها من حرية حركة في الجامعات والمعاهد؛ بعلم السادات ومباركة حواريه وأصدقائه: الطبيب محمود جامع، والمحامي محمد عثمان إسماعيل، والمقاول عثمان أحمد عثمان؛ نديم السادات وصهره، ومؤسس «المقاولون العرب».. ومن يعيد قراءة «حادث المنصة» يتأكد من دور العسكريين فيه، وإن رسخ في الأذهان كعمل «جهادي بحت»، ولم يكن مصطلح «الإسلام السياسي» قد شاع بعد في ذلك الوقت الذي مر عليه ما يقرُب من أربعة عقود.
وكان «الإسلام السياسي» ينظر للثورة كفتنة، وهي نظرة تتطابق مع نظرة السيسي حالياً، ومع ذلك تغير الموقف وحدث عكس ما كان مستقراً في الأفهام والقناعات، وحين حلت انتخابات الرئاسة في 2012 تقدم لها خيرت الشاطر نائب المرشد العام، والرجل القوي في «مكتب الإرشاد»، ولما اعترضت عليه لجنة الانتخابات؛ حل محله محمد مرسي رئيس حزب «الحرية والعدالة»، واستقرت المنافسة في الجولة الثانية بين مرشح الإخوان محمد مرسي، ومرشح جماعات المصالح وفلول حكم عائلة مبارك أحمد شفيق، وكان حكم مبارك قد أعيد إنتاجه بوجوه وإمكانيات جديدة استطاعت مناوأة ثورة يناير؛ بقواها وتياراتها الشابة والوطنية، وهم الذين أطلقوا شرارتها وحركوها وتولوا قيادتها.
كانت مكونات الحكم القديم قد تمرست على إجهاض أي تحرك جماعي وجماهيري.. وذلك بدعم تحالفات نفطية وإقليمية ودولية مختلفة المشارب
وبسرعة تشيطنت الثورة، ويتحمل «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» برئاسة المشير حسين طنطاوي المسؤولية عن ذلك، وعن إعادة إنتاج حكم مبارك بوجوه وأقنعة مغايرة. ومثلت ثورة يونيو 2013 موجة ثانية للثورة الأم، وكانت مكونات الحكم القديم قد تمرست على إجهاض أي تحرك جماعي وجماهيري.. وذلك بدعم تحالفات نفطية وإقليمية ودولية مختلفة المشارب، ولم تقتصر على «الشيطنة»، وقامت بأكبر عملية اختطاف لثورة 30 يونيو، وأعادت إنتاج ما هو أشرس وأكثر عنفاً من بلطجية «الحزب الوطني» المنحل، وقد كان أغلبهم من أباطرة الثروة والمال، ومن المتمرسين على التضليل والخداع واحتراف إجهاض أي جهد داعم للثورة والعمل الوطني، وأُلغِي كل هامش سمح بإبداء رأي، أو شجع على مشاركة من أي نوع.
وأثبتت الأحداث أن ما أعقب «ثورة يونيو» كان الأسوأ على الإطلاق، وفاق ما حدث لثورة يناير «الأم»، من إنهاك وتضييق، ووقوعها في براثن «الثورة المضادة»؛ بضيق أفقها المعتاد وقمعها المعهود، وكانت النتيجة وضع الآلاف في السجون والزنازين، وتردت الأوضاع بشكل كامل بسبب ارتفاع الأسعار المبالغ فيه، ومصادرة الحريات العامة.
ومثَّل يوم 30 يونيو اليوم الأطول في التاريخ المصري؛ لم يبدأ وينتهي بمقاييس الأيام العادية، فبدا قبل ذلك التاريخ بزمن طويل نسبياً، ومثلت الانتخابات الرئاسية المبكرة، من وجهة نظر قطاعات عريضة من الشعب، طوق إنقاذ وحل ديموقراطي؛ لو اكتمل لقفزت مصر قفزة كبرى في اتجاه التحول الديمقراطي، واستئناف الخطى على طريق تحقيق أهداف الثورة، وكتب غيري وكتبنا وقتها عن أهمية الانتخابات المبكرة. وجاء رفضها من «مكتب الإرشاد» من أكبر الأخطاء؛ لو فاز فيها مرسي لترسخت قاعدة الاحتكام للصندوق، وإن لم يفز يستمر الباب مفتوحاً أمام فرص أخرى، ويبقى البلد هو الفائز الحقيقي، وتبدأ عجلة الديمقراطية في الدوران حتى يعتادها الشعب.
ونشطت «حركة تمرد» في جمع التوقيعات المطالبة بانتخابات مبكرة وبادر «المجلس الوطني» المصري بتنظيم مؤتمرات لجمع التوقيعات الجماعية؛ الفئوية والمهنية والأكاديمية، وكانت مشاهد الإقبال وكثافته باعثة على التفاؤل، وكاشفة عن مستوى الوعي المرتفع، وعن القدرة على المبادرة، وكنت وقتها قريباً من تلك الفعاليات وعلى تماس ومشارك لرموز الثورة وقادتها وداعميها.
وأُجْهض كل ذلك نتيجة بوادر الإصابة بعدوى الحملات الأمنية والإعلامية وهوس الكتائب الإلكترونية المنفلتة، ولم تتمكن الأطراف المشتبكة من التقاط الأنفاس أو استيعاب ما يجري وتقييمه والخروج منه بدروس وعبر تساعد في تصحيح المسارات، دون إهمال يجعلها تستعصي على التصحيح. ثم زادت الثغرات وتعددت الاختراقات الداخلية والخارجية، وساهمت المغريات المالية والمنافع العينية في إحداث حالة من التيه المستمر، انتهى بأشد أنواع الإقصاء.
ويا ليت الإقصاء قد توقف عند حد الخصومة السياسية مع «الإسلام السياسي»، إنما طال كل قوى الثورة الشابة، ولم يَسْلَم منه حلفاء الحكم ومستشاروه ورجاله ومساعدوه، وحل محلهم عناصر منفلتة.. سليطة اللسان.. عالية الصوت.. تتقن الردح والصراخ والإهانات والتهديد والوعيد.. وفي مثل ذلك المناخ يجد الإرهاب والعنف المسلح ضالته، ويتحصن في الداخل، ويتسلل من حدود مصر الشرقية والغربية والجنوبية.
وتحولت المواجهات مع الإرهاب إلى استنزاف متبادل، ترتبت عليه اختراقات إقليمية وصهيونية ودولية؛ أضعفت مناعة المجتمع والدولة؛ المشغولة بـ«التأديب والانتقام والتضييق»، الذي طال كل من تمسك بسلمية الثورة، وكل من رأى في «30 يونيو» موجة تُعيد الاعتبار لثورة يناير وشهدائها ومصابيها، وتقضي على «الشيطنة» المصطنعة ضدها من أجهزة وإدارات الحكم؛ المحلية والأمنية والعسكرية، وتتخلص من فاشية أبعدت القوى الوطنية والثورية، ومنعتها من التواصل مع جمهورها، وتلبية مطالبه المشروعة.
ودخلت ثورة 30 يونيو النفق نفسه الذي دخلته ثورة يناير.. وأضحى الخروج منه في حاجة إلى عمليات جراحية مؤلمة، وعن بلوغ هدف «الحفاظ على وحدة الدولة وتماسكها» في مواجهة التوترات والتهديدات المحيطة بها.. فهذا يتحقق بدون حاجة إلى تأديب الشعب والانتقام منه والتضييق عليه.
كاتب من مصر
الفجر في الخصومة و الهروب إلى الأمام و عدم الإعتراف صفات ذميمة