من النوع إلى النص
بسبب موجة الحداثة التي عرفتها الآداب الأوروبية، وصعود مفاهيم النص والكتابة، باتت الممارسة الأدبية تتخذ اختيارات كتابية أحدثت خروقات لا يستهان بها لنقاء النوع الأدبي واستقلاليته، تحت مسمى التناص بما هو خاصية أي نص كان، بقدر ما استتبعت تحطيما جذريا للترسيمات الفاصلة بين هذا النوع وذاك، وبين شكل تعبيري وآخر، وهو ما أعاد النظر في مقولات الأنواع الأدبية وتراتُبيتها المعهودة، بما في ذلك النوع السيرذاتي.
كان هذا البراديغم الجديد يتساوق، إلى حد بارز، مع النظريات ما بعد البنيوية التي نظرت إلى الذات باعتبارها مُتشظية ومنشطرة، والإحالة على الواقع الخارج -نصي، وَهما، في ما تفقد اللغة وضعها كوسيطٍ شفافٍ أو قناةٍ أقل إشكالية في ارتباطها بالمرجع الخارج- نصي؛ إذ تدخل في لعب لا يتوقف من الكلمات التي تحيل، مثل المرايا، على بعضها بعضا، بدلا من أن تسجن نفسها في دلالة وحيدة وقطعية. وكان لهذا التصور الأخير تبعات خطرة باتت تهدد وجود مفهوم السيرة الذاتية نفسه. فإذا كانت الإحالة وَهما، فلن تكون السيرة الذاتية أكثر من شَكْلٍ تخييلي أو عملٍ مُتخيل، لا يمكنه البتة أن يُطلعنا على مؤلفها وهُويته، طالما أن «الذات غير ثابتة ومنشطرة».
وعبر هذا التصور، فقد غدت إشكالية التطابق، في المقام الأول، لسانية ونصية، وصار الفهم النظري يقوم على استحالة المطابقة الكُلية، عبر اللغة، بين «أنا» ذات التلفظ و«أنا» ذات الملفوظ، بسبب الصدع الفضائي- الزماني والحدود اللغوية. فالنص السيرذاتي يعرض الحياة ويبني الأنا، وهما معا يتطوران ولا يتشكلان إلا عبر فعل الكتابة، من أجل تحقيق كيان نهائي وتام لم يكن موجودا في البداية. فالأنا ينبثق من هذا النص – الأنا الذي لم يكن واقعا في البداية – يكشف في آخر المطاف عن كونه بناء نصيا، لا علاقة له مع مؤلف النص. وبالنتيجة، تصير كل كتابة للذات تخييلا، مثلما أن كل كتابة للحياة تصير تخييلا، ولا يبقى في المحصلة النهائية سوى الشخصيات على الصفحة ويمكن بدورها أن تُفكك.
لقد طفت إلى السطح تعددية المحكيات المقطعية والشذرية، التي تُفكك المفهوم التقليدي للذات، بشكلٍ مُتوازٍ مع الدعوة إلى نقد جديد للنص يُثمن دور القارئ ويُنظر لفعل القراءة، بقدر ما يلغي المؤلف أو يدعو إلى «موت المؤلف» بتعبير رولان بارت. وقد ساهم هذا الرفض للمؤلف بوصفه ذاتا مُوحدة في صياغة فهم جديد للنص السيرذاتي، أو سعى إلى إعادة التفكير في السيرة الذاتية، وهو يُركز بكيفية ما على النص ككيانٍ دال في حد ذاته: «في مجال الذات، ليس ثمة من مرجع». ويمكن القول إن العبارة الأخيرة تلخص جوهر السيرة الذاتية التي كتبها رولان بارت، والمعنونة «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975)، أي في السنة ذاتها التي أصدر فيها فيليب لوجون «الميثاق السيرذاتي».
حسب دريدا، فإن الميتافيزيقيا الغربية هي «متمركزة حول اللوغوس»؛ بمعنى أنها تقوم على فكرة الحقيقة النهائية، سواء كانت هي الإله، مفهوم الجوهر، أو «الدال المتعالي» الذي يوجد غير مستقل عن ما يحدث عبر التاريخ.
تفكيك «اللوغوس» ونفي الحضور
عندما كان جاك دريدا يُفكك «ميتافيزيقيا الحضور»، فإنما كان بالأحرى يختزل مفهوم النص الذي يُحال على مؤلفه، إلى مجرد وهم. حسب دريدا، فإن الميتافيزيقيا الغربية هي «متمركزة حول اللوغوس»؛ بمعنى أنها تقوم على فكرة الحقيقة النهائية، سواء كانت هي الإله، مفهوم الجوهر، أو «الدال المتعالي» الذي يوجد غير مستقل عن ما يحدث عبر التاريخ. يكفل هذا «اللوغوس» دلالة الكل وكل علامةٍ تُحيل عليه.
وتتجلى «ميتافيزيقيا الحضور» هذه، بشكل ملموس، في ما يسميه دريدا بـ«التمركز حول الصوت»، المصطلح المفتاح في كتابه (De la grammatologie)؛ وهو يُعرفه بأنه «تجاوز مطلق للصوت والكائن، للصوت ومعنى الكائن، للصوت ومثالية المعنى». فقد كان التقليد الفلسفي الغربي دائما ما يميز الكلام عن الكتابة، زاعما أن الكتابة تأتي بعد الكلام، كإضافة، لإدامته ما وراء وضعية التلفظ. وتبعا لذلك، تتحول الكتابة، كنسق ثانوي، إلى ما دون الكلام.
لكن هذا «التمركز حول الصوت» يتضمن كذلك أن المتكلم «يمتلك»، قبل أن يتكلم، الدلالة التي يفيض بها فكره (كينونته)، الدلالة التي تعبر عن نفسها مباشرة عندما يتكلم بدون اعتبار للخواص النوعية للوسيط، أي اللغة. يستشهد، هنا، بأرسطو الذي يرى أن «الحروف يبثها الصوت وهي رموز لحالات الروح»، ليدرك أن الدلالة إنما هي «قصد دال، حاضر في الوعي لحظة الكتابة»، وهو ما قاده إلى تفكيك المفهوم اللساني للعلامة.
يجعل دريدا العلاقة بين الدال (المنطوق والمكتوب) والمدلول إشكالية، بعد أن نفى أن يرتبط الدال بمدلول واحد. وبدلا من أن يجعل الدلالة المعينة حاضرة، يحيل الدال على دوال أخرى تضيع في لعبةٍ من المرايا لا تنتهي، وتُرجئ باستمرار بناء دلالةٍ قطعية. ويلعب المفهوم الدريدي للاختلاف La différence على الدلالة المزدوجة لفعل (différer)، «أعاد وضعها في وقت آخر»؛ لأن الدلالة داخل اللغة ترتبط بلغة الاختلافات، لكنها مُرجأة باستمرار، أي ليست ثابتة ولا مؤكدة،
ومنظور إليها في مجال النص كدال ناجز، تستتبع العلامة أن نصية النص لا تمحى قط عند توسلها بهذه الدلالة أو تلك، والوثيقة لا يمكنها كذلك أن تكون مرآة شفافة لها، وبالتالي تصير الطبيعة المرجعية للنص إشكالية: إذا كان النص (كدال) لا يشير إلا إلى نصوص أخرى، فإن خارج النص لا يستطيع أن يمثله النص بشكل دقيق. فلن يتم للعلامات الخطية على الورق أن تُعبر عن «جوهر» من يُشكلها.
في هذا السياق، يستدعي دريدا بنفينيست الذي يؤكد أن الضمير «أنا» بدلا من أن يحيل على الذات التي تكتبه، فإنه يصير حجة لضمير المتكلم داخل وضعية التلفظ، ومعه يغدو الضمير «أنت» الشريك الآخر. ويمكن لهذا الـ«أنا» أن يعود على كل شخص يستخدم الخطاب ليتوجه به إلى شخص آخر.
إن هذا الرفض لـ«ميتافيزيقا الحضور» قد وضع مفهوم الدلالة المنسجمة موضع سؤال، إذ لن يمكنها أن توجد من خلال اللغة، مثلما أن وضع الذات المتكلمة (أو الكاتبة) كمصدر للدلالة صار في حكم المشكوك فيه. وهو ما يقودنا إلى افتراض أن تفكيك الذات، الذات السيرذاتية تحديدا، من طرف دريدا وفلسفته يتأتى من أن الضمير «أنا» داخل النص السيرذاتي لا يحيل كيفما اتفق إلى الشخص الذي كتب النص؛ فالتمثيل الذاتي ـ ميزة السيرة الذاتية – يصير وهميا، لأن الـ«أنا» فقد سلطته في أن يكشف داخل النص عن حضور الفرد الموجود بالفعل.
يستدعي دريدا بنفينيست الذي يؤكد أن الضمير «أنا» بدلا من أن يحيل على الذات التي تكتبه، فإنه يصير حجة لضمير المتكلم داخل وضعية التلفظ، ومعه يغدو الضمير «أنت» الشريك الآخر.
وهم التطابق ولا «مركز» للذات
يبرز دريدا، في محاضرة تناول فيها سيرة نيتشه الذاتية المعنونة بـ «Ecce Homo»، أن العلاقة بين حياة الكاتب وسيرته الذاتية، يمكن أن تكون علاقة إشكالية، ويُفكك، بخصوص نيتشه، الرابطة الضيقة التي تقام عادة بين اسم العلم والشخص الذي يوجد/ وُجِد في الواقع: «كائن ميت يدل، على الأقل، على أن أي مغنم أو سحر مُؤْذٍ، مُرتب له أو لا، لا يرجع لحامل الاسم، بل للاسم فقط أيا كان، فهو – وليس الحامل- اسم الميت دائما ومبدئيا». فالموت الحقيقي يفصل الحامل عن اسمه، بينما الاسم يمكن أن يكون له وجود مستقل عن وجود حامله، أي أن اسم العلم هو غالبا ما ينتقل من جيل إلى آخر، من غير أن ينتمي دائما إلى شخصٍ بعينه. يمكن أن نؤول هذا الإثبات من دريدا كما يلي: اسم العلم لا يمكن أن يأخذ مكان الحي، لأن هذا الاتفاق بين الكائن الحي والاسم ليس إلا جزئيا وزمانيا. فاسم العلم، أي إمضاء النص، لا يُثبت التطابق بين المؤلف والشخصية النصية، كما يعتقد فيليب لوجون. ويفسر نيتشه في مُقدمة عمله/ سيرته الذاتية، أن الاختلاف الكلي بين الرأي الذي كونه عنه معاصروه وما يُجسد رأيه الخاص في حقيقة الأمر، هو الذي دفعه إلى كتابة سيرته الذاتية الخاصة. وغيْرَ معني بالهوية التي رسمها له معاصروه، يذهب نيتشه إلى خلق هُويته الخاصة في نص سيرته الذاتية: «فريدريك نيتشه، هذه الهوية التي يطالب بها، ولا يأخذ بما تعاقد عليه معاصروه. يتلقاها من تعاقدٍ غريبٍ ولى تلقاء نفسه، هذا الاسم هو اسم خاطئ سلفا. الاسم المستعار والمذكر الذي سيصير متكتما، بشكل مُضل، على فريدريك نيتشه الآخر».
في هذه الحالة، يصبح التعاقد اللوجوني، أي الميثاق مع القارئ، إشكاليا؛ لأن صورة نيتشه العامة والصورة التي له عن نفسه لا تتقاطعان. ويكمن هذا الانزياح في أن اسم العلم يصير مستعارا وغير قادر على أن يكون إمضاء للتعاقد مع معاصريه. ويلاحظ دريدا أن اسم العلم «فريدريك نيتشه» الذي يُذيل به المقدمة، لا يحل مشكلة تطابق المؤلف، ما دام أن عنوان هذه السيرة الذاتية لا يخلق أي ميزة لكاتبها. يتحدد العمل بالأسماء التالية: «هل فهمتموني؟ ديونيزوس قبالة المصلوب». في ضوء ذلك، يستثمر دريدا تعقيدات اسم العلم كما يلي: «نيتشه، Ecce Homo، المسيح، ليس المسيح، ولا حتى ديونيزوس، بل بالأحرى الاسم النقيض، الاسم المضاد، المعركة التي تسمى بين اسمين اثنين. أنظر ما يكفي ليتعدد اسم العلم والقناع التضميني خاصة، وليضيع في المتاهة، كل خيوط الاسم». هكذا، يصير اسم العلم مُتعددا، فلا يستطيع أن يكون إمضاء شاهدا على الوجود الخارج- نصي للشخص الحقيقي. مثلما يعترض تحليل النص الخاص بـ «Ecce Homo» على تعريف السيرة الذاتية المتعارف عليه: «هذا المحكي ليس سيرذاتيا، لأن الموقع يسرد حياته، بل لأن هذه الحياة يحكيها لنفسه أولا، عدا أنه المتلقي الوحيد للسرد داخل النص». بالنسبة إلى دريدا، لا تدل «Auto» على مصدر خارج- نصي للمحكي، بل على الحدث الذي يصدر عن الـمُرْسِـل ويعود عليه داخل النص. ولا يصرح مصطلح «سيرة ذاتية» بالعلاقة المائزة بين النص وخارج النص (الحياة الحقيقية)، بل العلاقة التي لا توجد إلا ضمن حدود النص.
لتأكيد إلغاء الطبيعة المرجعية للنص السيرذاتي، يستشهد دريدا بمطلع «Ecce Homo» الذي يشير فيه نيتشه إلى أصوله. فبدلا من أن يكشف الحجاب عن هُوية أبويه (بأن أباه هذا أو ذاك، وأمه هذه أو تلك)، يؤثر نيتشه أن يُغير هذا التوجه في السيرة الذاتية إلى لغز يبدو في صياغته مُدْهشا من وجهة نظر نحوية: «كنتُ في الوقت الذي مات فيه أبي من قبل، ما أزال أحيا وأهرم بالنسبة إلى أُمي».
يُنْظــــر إلى نظرية تفكيك السيرة الذاتية بالأخص، ونظرية جاك دريدا عموما، باعتبارها تشكل أساس الأبستيمولوجيا ما بعد الحداثية، وأهم ميزاتها رفض التصور الإنسي للذات كمصدر لدلالة الخطاب.
من خلال هذه الأقوال الغريبة، يريد نيتشه أن يقول إنهُ ابْنٌ للأب الذي سبق له أن مات، وللأم التي تحيا دائما. فقد كان له انطباع بأن يصطنع تجربة الموت عبر موت أبيه، لكنه يشارك أُمه الحياة على الدوام. وفي هذه الألفاظ الرمزية التي اختارها نيتشه للحديث عن نفسه، بهدف الإيحاء بالهوية المزدوجة من غير أن يدقق فيها مع ذلك بكيفية مفصلة: «الولادة المزدوجة تفسر من أكون، وكيف أُحدد هُويتي: مزدوجة ومحايدة». بناء على جميع هذه العناصر التي تحجب هُوية المؤلف، نستطيع أن نستنتج بأن نيتشه يذهب أبعد من أن يختصر ما مضى من الحياة الواقعية، وهو يحكي حياته بنفسه. إنما هو ـ بالأحرى- يخلق حياة له تُعادل بناء تخييل وجوده بواسطة المجازات. ومن هنا، نلمح إلى أن أنا النص السيرذاتي إنما هو تخييل لا يخبرنا حقيقة بشخصية المؤلف الذي أبدعه، كما نلمح إلى أن القارئ ليس بوسعه أن يتعرف في هذا النص على الوجود الشخصي والخارج-نصي للمؤلف.
من هنا، يُنْظــــر إلى نظرية تفكيك السيرة الذاتية بالأخص، ونظرية جاك دريدا عموما، باعتبارها تشكل أساس الأبستيمولوجيا ما بعد الحداثية، وأهم ميزاتها رفض التصور الإنسي للذات كمصدر لدلالة الخطاب.
فلقد تمت إزاحة الذات ما بعد الحديثة عن المركز، وهو ما جعلها بلا مركز ثابت أو خارج نصي تسند إليه دلالة النص، كاشفة عن أن الإمكانات المرجعية للغة هي في موضع شك.
وإذن، فقد أضاعت هذه الذات مركزها داخل المعنى الذي لم تعد قدراته المنطقية أكثر وضوحا، كما كان عليه الحال مثلا في القرن الثامن عشر. فلا يمكن للذات أن تسود العالم عبر عقلها، بل إن الذات لم تعد تدرك نفسها كوحدة بعد أن استحالت إلى مُجرد خطابات وشيفرات تتجاوزها وتحدها، ولم يعد لوعيها الـمُهدد بدوافع لاوعيها السلطة المطلقة على تصرفها.
فهي مقطعية ومتشظية ومُجردة من وعيها الحاضر بحد ذاته، وباتت تخضع في الأخير للعبة «إرجاء» مستمرة؛ أي أنها ستكون بلا رسو، أو بدون مرجع.
٭ شاعر مغربي