أي مناسبة سينمائية يمكن أن تكون أكثر إغراءً، لمحبي السينما، من برنامج استيعادي للمخرج الفرنسي جان لوك غودار! برنامج بضخامة الذي تنظمه السينماتيك الفرنسية في باريس هذه الأيام، بدءاً من الثامن من يناير/كانون الثاني وحتى الأول من مارس/آذار، اليوم الذي سيشهد مقابلة مع غودار في السينماتيك.
غودار هو أفضل السينمائيين الأحياء لدى الكثير من السينيفيليين (محبي السينما)، هو من جيل كبار رواد ومؤسسين مؤثرين في مخرجين كبار حاليين. معظم زملاء غودار، ممن هم في ثقله السينمائي، رحلوا ليصيروا كلاسيكيين. غودار وهو بعمر 89، حي وفاعل، يصنع أفلاماً (هو الآن يشتغل على فيلم)، وأفلامه الأخيرة ماتزال جديدة نسبياً، «وداعاً أيتها اللغة» في 2014، و«كتاب الصورة» في 2018. هو مؤسس لتيار سينمائي، في وقت تخطت السينما القرنَ من عمرها، وأفلامه صارت من الكلاسيكيات وهو مايزال حياً وفاعلاً، لكنها نوع آخر من الكلاسيكيات، هي تلك الكلاسيكيات التي لا تكف عن كونها «أفانغاردية» (طليعية) وتجريبية وثورية ومتقدمة عن غيرها من الأفلام الكبرى للمخرجين الكبار الراهنين، مهما كانت أجيالهم.
البرنامج الاستثنائي، من بين كل البرامج التي يمكن لسينماتيك ما أن تنظمها (وهذا قول منحاز لسينما غودار وأُقر بانحيازي هذا) سيعرض 51 فيلماً روائياً طويلاً وقصيراً ووثائقياً، لغودار وعنه، ومقسم إلى ست من مراحل غودار السينمائية، ليست زمانية بقدر ما هي موضوعاتية. المرحلة الأولى هي «الموجة الجديدة»، المرحلة التي بدأ فيها غودار مشواره السينمائي بعدما كان ناقداً في مجلة «دفاتر السينما»، تمتد المرحلة من 1954 إلى 1965. المرحلة الثانية تأتي بعنوان «حكايات سيكولوجية» وتمتد من 1965 إلى 1966. الثالثة بعنوان «أعمال ثورية» وتمتد من 1967 إلى 1972. الرابعة هي «فيديوهات تجريبية وتمتد من 1975 إلى 1978. الخامسة هي «حوار بين الفنون» وتمتد من 1979 إلى 1992. المرحلة السادسة والأخيرة هي «تأملات تاريخية» وتمتد من 1993 إلى اليوم.
هذا التنوع في مضامين وأشكال أفلام جان لوك غودار، يشي بغنى مجمل الإنجاز السينمائي له، من قصص الحب إلى النضالي إلى التجريبي إلى السيكولوجي، وتلك المضامين تأتي بأشكال هي كذلك ثورية وأفانغاردية من فيلمه الأول «حتى آخر نفس»، بالنفس الطويل الذي واصله غودار حتى فيلمه الأخير عام 2018.
هذا التكريم من السينماتيك الفرنسية في باريس، يلحق تكريماً آخر كان في مهرجان كان عام 2018، حيث استُحدثت جائزة خاصة ليتسلمها غودار، صاحب التاريخ الطويل مع هذا المهرجان، من ذلك اعتلاؤه المنصة مع رفاق آخرين كفرانسوا تروفو وكلود شابرول، إثر عرض الافتتاح، ليطالبوا بوقف عروض المهرجان تضامناً مع ثورة الشباب الثقافية عام 1968، وكان لهم ذلك.
جان لوك غودار هو تجربة وتيار وظاهرة سينمائية أكثر من كونه صانع أفلام، الأمر لا ينحصر – بطبيعة الحال – بالكم الكبير لأفلامه، بل يتعلق أكثر بجودة تلك الأفلام
جان لوك غودار هو تجربة وتيار وظاهرة سينمائية أكثر من كونه صانع أفلام، الأمر لا ينحصر – بطبيعة الحال – بالكم الكبير لأفلامه، بل يتعلق أكثر بجودة تلك الأفلام، فهو -خلافاً لكثيرين- ترافق الكم الكبير لأفلامه جودة هي كذلك عالية، فلا تكون الجودة آتية بالصدفة مرة كل عدة أفلام. ويتعلق كذلك بالبعد الثقافي والفكري والسياسي لهذه الأفلام، فإضافة إلى الثقل الفني والتقني فيها، هي ذات أبعاد سياسية ونضالية واجتماعية، وقد يهمنا، كمشاهدين عرب، الإحالات السياسية القريبة منا، فغودار صديق للفلسطينيين، في أكثر من فيلم إشارات مباشرة للقضية الفلسطينية، في «فيلم اشتراكية»، 2010، وفي «موسيقانا»، 2003، حيث شمل الفيلم حواراً خاصاً مع الشاعر محمود درويش، وكان الحوار جزءاً من سياق الفيلم السياسي. إضافة إلى فيلم «هنا وهنالك»، 1970، وفيه تصوير لفدائيين فلسطينيي (هم موضوعه الرئيسي)، وهو من المرحلة النضالية لغودار، وغيرها من الأفلام (وكذلك المقابلات) التي يطول الحديث عنها.
في حالة كهذه، أفلام بهذا التنويع لدى غودار، إن كان لا بد من تعرف أولي على هذا العالمَ السينمائي، أقترح الأفلام التالي، لكونها من بين ما أجده الأفضل، ولكونها أقل تجريبية إذ لا أفضل أن يبدأ أحدنا بالتعرف إلى غودار من خلال أفلامه التجريبية، أو التي تحوي تجريباً بنسبة عالية، وبالتالي لكونها تحمل خطاً سردياً حكائياً أكثر وضوحاً من غيرها، أوردها هنا بدون ترتيب:
– À bout de souffle، حتى آخر نفس، 1959
– Bande à part، عصابة من الغرباء، 1964.
– Le Mépris، احتقار1963.
– Pierrot le fou، بييرو المجنون1965.
– Vivre sa vie، أن تعيش حياتها1962.
– Masculin féminin، مذكر مؤنث 1965.
هي أفلام من السنوات الخمس الأولى في مسيرته السينمائية، أفلام «الموجة الجديدة» التي شكلت عالمه اللاحق الذي كان أكثر تجريبياً، هي أفلام أسهل للمشاهدة وأبدى لنتعرف بها، وهي من بين أفضل أفلامه، إلى عوالمه المتفاوتة شكلاً وموضوعاً.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا