جبرا إبراهيم جبرا… الروائي الموسوعي

حجم الخط
5

يُوسم جبرا بالأُنموذج الجميل للمثقف العربي الموسوعي، والكاتب عَبْر النوعي، فهو إكسير الأجناس الأدبية من رواية وقصة وشعر ونقد، إضافة إلى مشروعه الترجمي النهضوي وبراعته في الرسم. وهو صاحب البناء الروائي المرمري والهندسي الجميل، تشكل أعماله الروائية حَصْرًا «السفينة» 1970 و«البحث عن وليد مسعود» 1978، رافعة ونموذجِا ناجحًا للرواية العربية الحداثية، من حيث تشييدها المعماري المعتمد تقنيات سردية جديدة مُستقاة من الرواية الغربية، متمثلة بجيمس جويس ووليم فوكنر وفرانز كافكا، وبمخزونها الثقافي المتنوع من ميثولوجيا وفلسفة وموسيقى وأديان وآداب عالمية، ولوحات فنية وأحداث تاريخية ومعلومات جغرافية وغيرها من الحقول المعرفية، ممهورةً بلغة شاعرية شائقة وبناء زمني مُتَشَظ. وهاتان الروايتان هما الهوية الروائية لجبرا، لأنهما قمة ما كتب من رواية. وروايات جبرا انتقائية من حيث مستواها الفني والفكري وسعة ثقافة شخصياتها، وقضاياها الشائكة وجدلها الفلسفي والحضاري الصاخب، في أروقة الجامعات والمقاهي الثقافية.
حملت روايات جبرا الوجع الفلسطيني من قتل واقتلاع وتغريب وتشتيت ومُعاناة إضافة إلى هُموم المثقفين العرب ونزعاتهم الذاتية والوهمية، في إحداث التغيير في مجتمعاتهم، البعيدة عن الركب الحضاري، وقد أركن جبرا لهم حركة التغيير، لكنهم فشلوا وصُدموا من عجزهم وارتداد صوتهم «الصارخ في البرية» وحين اُحبطوا قرروا الهرب والهجرة إلى الغرب، كما في «السفينة» لكن هربهم فشل فعادوا اضطراريًا إلى أوطانهم وقد فسر جبرا ذلك «إن الهروب من السفينة عنصر أساسي طبعا، فأنا أصور أناسا يهربون، لكنهم في النهاية يكتشفون أنهم لا يستطيعون الهرب، أو أنهم يجب ألا يهربوا، أو أن خلاصهم يكمن في العودة إلى أرضهم، في العودة إلى الصخر، والصخر هو كل شيء، ولذلك وضعتهم في سفينة بعرض البحر، هؤلاء عزلوا أنفسهم، وأبحرت بهم هذه السفينة في المياه، من مدينة إلى مدينة، فكأنهم يتصورون أنهم يستطيعون أن ينسوا تجربتهم الحقيقية، تجربتهم التي هي أعماق كيانهم، لكنهم اكتشفوا أنهم يحملون تجربة الصخر في أنفسهم، وأن خلاصهم في النهاية هو أن يعودوا، وإلا انتحروا كما انتحر فالح، لأنه لم يستطع أن يعود، وخلاص العربي هو في عودته يعود، وخلاص العربي هو في عودته إلى الصخر، في مجابهة قضيته في بلده» (الفن والحلم والفعل 1988).

عالم بلا حدود وبلا خرائط

أراد جبرا أن يكون جزءًا من العالم، وجزءًا من العصر. في نظره «أن تعيش في هذا العالم، وفي هذا العصر، يعني أن تكون شموليا بمعرفتك، وثقافتك وحسك، والشمولية تقتضي العمق التاريخي، الجغرافي معا»( تأملات في بنيان مرمري) وفي قضايا الثقافة، رفض جبرا أن يضع حدودًا وفواصل بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، مفسرًا ذلك «لأنني أرى أن الحضارة الإنسانية في جوهرها كل لا يتجزأ، مهما تكن الذرائع المزعومة المعتــقد، والعرق أو اللغة. وليست المسألة في خاتمة المطاف إلا: المعرفة أو اللامعرفة، واللامعرفة نيل من الإنسان، أينما كان موطنه.
هناك يوم أسود أرجو ألا نراه، وقد أعاده علينا متسلطون جهلة، هو اليوم الذي ضرب فيه الطبيب الحكيم أبو بكر الرازي على رأسه بكتابه «الحاوي» ضربات عنيفة متكررة، إلى أن غشي بصره.. أو ذلك اليوم الذي كُفر فيه غاليليو لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس». وقد آمن جبرا بفكرة «الإنسان الكوني» رافضا مقولة هاملت الرهيبة -على حد تعبيره – «إني والله لأستطيع أن أحصر في قشرة جوزة، وأعد نفسي ملك الرحاب التي لا تحد، لولا أنني أرى أحلاما مزعجة» ( تأملات في بُنيان مرمري).

رفض جبرا أن يضع حدودًا وفواصل بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، مفسرًا ذلك «لأنني أرى أن الحضارة الإنسانية في جوهرها كل لا يتجزأ، مهما تكن الذرائع المزعومة المعتــقد، والعرق أو اللغة.

التعلق بالجذور القدس وبيت لحم

في نصوص جبرا الروائية، خصوصية فلسطينية مميزة، فالقدس وبيت لحم حاضرة بحاراتها وشوارعها، وبالطفولة القاسية والمأساة الفلسطينية، والمسحات الحزينة لضياع الوطن. والفلسطيني التائه في أعماله، المغترب قسرا، هو مثقف ناجح ومؤثر في مجتمعه العربي لكنه، يعاني شرخ الاغتراب المكاني والاجتماعي وبتوصيف وديع عساف «لعنة واحدة هي أوجع اللعنات: لعنة الغربة عن أرضك» (السفينة). كما أنه مسكون بالنوستلجيا. وفي «صيادون في شارع ضيق « يقول جميل فران: «لقد نسيت أسفاري، وما عدت أستطيع أن أذكر ملامح أي مدينة في العالم سوى مدينة واحدة. مدينة واحدة أذكرها، أذكرها طيلة الوقت. تركت جزءا من حياتي مدفوناَ تحت أنقاضها، تحت أشجارها المجرحة وسقوفها المهدمة، وقد أتيت إلى بغداد وعيناي ما زالتا تتشبثان بها – القدس». وأبطال جبرا رُغم نجاحهم في الغُربة والشتات، إلا أنهم لم ينصهروا في المجتمعات العربية لتعلقهم بالجذور وبالمكان الاستثنائي الساكن في قلوبهم، وهذه الشخصيات التخييلية انشطارات لشخصية جبرا المسكونة بالقلق والغربة الروحية والوجع وحلم العودة إلى الوطن الأرض والجذور. وكما كتب عنه الروائي والباحث حليم بركات «كما لا تنفصل الكتابة عن الكاتب (والعكس صحيح) كذلك الرواة في أعمال جبرا لا يستقلون عنه، فنجد دون جهد كبير بصماته في كل مكان من جسد المرويات. المؤلف هو الراوي، وعندما يتعدد الرواة في العمل الروائي يكون المؤلف راوي الرواة، دون منازع فارضا ظله على كل من حوله. لذلك ومن هنا صعوبة الفصل بين الكاتب والكتاب، والمؤلف والراوي أو الرواة، والمعاناة والكلمة» (غُرْبة الكاتب، بيروت- دار الساقي).

طريقة المرايا

تأثر جبرا في «السفينة» بأسلوب الكاتب الأمريكي وليام فوكنر صاحب «الصخب والعنف» التي ترجمها جبرا إلى العربية، من حيث اتباع طريقة المرايا personages images) أو الشخصيات العاكسةpersonages reflector) وفقا لهذه الطريقة، فإن الشخصيات تكون هدفا للرؤية أكثر من كونها رائية، لأنها حين تقص عن الشخصيات الأخرى تكشف عالمها الداخلي وأسرارها، أكثر مما تكشفه حين تقص عن نفسها مثال على ذلك، يتجلى في حديث وديع لعصام «غريب! هذا ما قلته أنا لجاكلين.. قلت لها: أنت نرجسية. أكبر نرجسية. تشتهين نفسك عن طريق مرآتي. فقالت: وحضرتك؟ فقلت: وأنا أشتهيك نرجسيا أيضا، لكن كمرآة لك، أعني يلذ لي أن أعكس شهوتك، فأشتهيك، أو أشتهيك فأعكس لك الشهوة التي تترقرق على جسدك» (السفينة) كذلك تشكل لمى المرآة الكبرى العاكسة لشخصية عصام في السفينة، والحديث عنها من قبله يكشف عالمه الداخلي.

جبرا وكنفاني وحبيبي مُثلث الرواية الفلسطينية

جبرا وكنفاني صنوان من حيث التجديد في فنية الرواية، والتزامًا بالقضية الفلسطينية، لكن كنفاني استبدل الحلم بالصحوة والثورة والبُركانية، لدى فلسطينيي الشتات والمخيمات، بينما إميل حبيبي الملتزم حتى النخاع بشعبه وهمومه، والحامل صخرة «باق في حيفا» المنغرسة في ضريحه، صاحب الحكمة والذكاء في التعامل مع شخصياته الفلسطينية، بعد الواقع الجديد الذي فرض عليها عام 1948، فقد نذر قلمه لملحمة وصمود الباقين في وطنهم، رُغم أعاصير الترحيل والنفي والتغييب وسلب الأرض والمكان وتغيير هويته، وقد حملت «المتشائل» هوية الأماكن والقرى المهدمة والمُعَبْرَنة والفلسطينيين الباقين في وطنهم والمُغيبين حُقوقًا، بينما بقي أبطال جبرا في «صيادون في شارع ضيق» و«السفينة» من مثقفين وناجحين في المنفى، يعتمدون الحلم في العودة، بعيدًا عن الفعل الكنفاني، باستثناء «البحث عن وليد مسعود» الذي شكل اختفاؤه لُغْزًا مُبْهَما ينفتح على تأويلات عدة منها، انخراطه في العمل الفدائي، بعد استشهاد ابنه مروان في عملية فدائية. لقد كتب جبرا من مخزون ذاكرته إبان النكبة التي نسفت الإنسان والمكان والكتابة، وهو لم يعش تجربة كنفاني نفيًا، وحبيبي بقاءً وصُمودًا، لكن فلسطين شكلت حاسةً سادسةً وبُوصلة في أعماله، أبطاله ينوبون حولها لكنهم مأسورون بالذكريات والحنين الرومانسي الذابح، وهي عندهم إيثاكا يولسيس، لكن يولسيس عاد إلى وطنه إيثاكا، بينما أبطال جبرا لم يعودوا، بقوا مثله يخططون ويحلمون بالعودة، ووديع عساف في «السفينة» يتماهى مع يولسيس، ومع نهايته السعيدة بالعودة إلى بيته وزوجته، ويبحر في سفينة، تمخر أهوال البحار، هذا ما يجول في خاطر وديع، بعد أن عبرت السفينة مضيق كورينث. «بوغاز كورينث أمْسى وراءنا. البحر اليوناني يحتوينا في ليله المقمر المليء بالأساطير. أساطير الحب، والقتل، وعبير الأرض يجتذب يولسيس الهائم بين أهوال البحار، لا بد من عودة، لابد» (السفينة).

٭ كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سيرين خلايلة:

    تحية طيبة أستاذ
    سلمت أناملك على كتابة أجمل المقالات.. حروفك بسيطة في عرض المضمون ومفعمة بالمعاني الرائعة .. يسرني قراءة مقالاتك ويروقني النظر إليها .. حتى أنها أصبحت مميزة وكاتبها جلي ..تنسب إليك فور قراءتها .
    لطالما أحببتَ جبرا ابراهيم جبرا وتحدثتَ عنه في المساقات.. وها أنت كالمعتاد تكتب عنه بكل إعجاب.. هنيئًا له على هذا الإعجاب.

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    الراحل جبرا ولد في بيت لحم 1920 ثمّ استقرّ في بغداد 1948 ثمّ توفّي في العراق 1994.أي أنه عاش في العراق (46) سنة مليئة بالعطاء
    فيما لم يقضِ في بيت لحم سوى (28).أمنْ المعقول لا تشير ولو بكلمة واحدة إلى اسم بغداد وجبرا أصبح عراقيًا أكثر مما هو ( لحميّ).

  3. يقول ايمان البستاني:

    صورة جبرا هذه بالذات تعيدني الى الذكرة المجيدة لوصول كتابك الرصين ( بئر الحداثة) الذي حط كحمام زاجل في عمادة الهندسة ، يومها احترت في تقييمه ادهشتني براعتك في فك طلاسم رواياته و ترجماته …اما عندما التقينا تيقنت ان جبرا اعارك مفاتيح بيوتات بغداد لولعك الدائم بها…..عيد ميلاد مجيد

  4. يقول ياسمين:

    فتحتَ شبابيكاً في روحي، تطلّ على فلسطين وحجارتها، ويبدولي أنني رأيتها وأخذني ماؤها للغرق.. دون أن أكون يوماً فيها، ودون أقرأ السفينة لجبرا.. جعلتني أشعر بالانتماء..
    شكراً دكتور سمير على فيض كلماتك

    1. يقول ًصبحي البستاني:

      مقالك جيد يا صديقي. الروائيون الثلاثة الذين تناولت إنتاجهم كانوا موضع اهتمامي في عدد كبير من مقالاتي. وبالرغم من أن نمط الكتابة عند كل منهم يختلف عن الآ خر فلقد تمكنت في مقالك من تحديد الاطار الذي يجمع بينهم.
      أعياد مجيدة وكا سنة والجميع بخير

إشترك في قائمتنا البريدية