جدار التشكيلي العراقي سلمان البصري ومجاورة الموروث

حجم الخط
0

فكرة الجدار نتائج تحددها القيمة الفنية والموضوعية لحدود المكان وملحقاته منذ العصور الأُولى، والاستمرار في بناء الحضارة الإنسانية، حيث انصب جهد الإنسان على توظيفه باعتباره طُرساً للكتابة والتدوين، قبل اختراع الجلد والورق والحفر على الحجر والطين الليّن.

بدأ الإنسان القديم في توظيف جدران الكهوف لتدوين يومياته المتكونة من مشاهدات أثناء جمع القوت، ومواجهة الحيوانات المفترسة التي خلقت عنده إحساساً بالخطر، ثم الموت. كان الجدار بمثابة محتوى لسرد مختلف ومتشعب، عكس مجمل الصور المعاشة، سواء من المرأة الأُم أو الرجل الأب، حيث السلطتان الأنثوية والبطرياركية. لذا لا غرابة إذا وجدنا الإنسان المعاصر يهتم بالجدران من منطلقات كثيرة، لعل العمارة واللوحة التشكيلية أهمها. وقد زحف هذا على ذائقة الإنسان وهو يعد بناء منزله، مركزاً على الجدران الخارجية (الواجهة) ثم الجدران الداخلية وما شهدته الذائقة الفردية والجمعية من اختيارات. والفنان التشكيلي مارس كما هو معروف الاهتمام بالجدار (سطح اللوحة) وسبل اختياراته المتجسد بمجموع الإضافات الفنية، من منطلق المعارف المكتسبة التي وفرت له بنية فكرية، هي المساحة التي يمارس من خلالها تطبيقاته على صعيدي الفن والمعنى. لعل الفنان سلمان البصري واحد من الفنانين الذين وظفوا الجدار برؤية واضحة، لكن الذي يمنحه لشخصيته الفنية المتجسدة في اللوحة، كونه يستفيد من ذاكرته المعرفية، أو أنه بدوافع جينية ـ معرفية ينحو باتجاه الصياغات القديمة، مجسداً هذا الملمح في تعتيق اللون الذي يُحيل سطح اللوحة إلى بنية ذات علاقة بالموروث. وقد لعبت جملة صياغات لتجسيد وبلورة مثل هذا الاتجاه في ما يلي من قراءة:
ـ توظيف الحرف والجملة ذات النمط العرفاني، بطريقة وأُسلوب مغايرين عمن جايله من الفنانين. فالملحق على سطح اللوحة (الجدار) يعني تأكيدا على حس ذاتي يعبّر فيه عن نوع من التقية العرفانية، يستل هذا المشهد الفني من مخيلته ومعرفته الواضحة. وبذلك فهو موصول بمفردات الواقع ومن ثم الواقع الشعبي.
ـ العودة للحصان الذي له صياغات في التعبير، فهو عند جواد سليم غيره مما عند كاظم حيدر وآخرين. فالجميع ينطلقون في التعامل مع هذا الرمز من منطلق مبدئي ـ حسي تعبئه وتثيره الذاكرة الفردية، أي الذاكرة المعرفية التي تعتمد أيضاً على بنية أنثروبولوجية وأُسطورية. فالحصان على سطوح جدران معظم الفنانين، هو حصان يستند إلى بنية متخيلة، قادرة على إثارة الحوار وصعود الأسئلة. فالحصان يحمل طاقة جسدية ومعنوية، فسحت المجال للفنان فرصة التعامل معه برؤى متجددة، عابرة لصورته نحو صورة جديدة شديدة الاتصال بالمخيال الفني. فهو حصان متخيّل.

ـ طبقات السطح واحتواؤها على مربعات حاوية على رموز قارّة من جهة، ومبتكرة من جهة أُخرى. بمعنى خلق نوع من السرد التشكيلي الذي يعتمد على محتويات هذه الطبقات الموحية بسرود مختلفة ومتعلقة بالظواهر العامّة والخاصّة. فالفنان في هذا الضرب من التوظيف يعتمد الأشكال كالمربع والمثلث، كذلك الحروف والعلامات التي تتمثل الكتابات الغائرة في القِدَم كالكتابات الصورية والمسمارية.
ـ اختيار الأزرق الشذري الذي يوحي بالقدسية، والتعبير عن سطوح المياه وهدوئها وزرقة السماء. وهي عودة إلى طفولة الوجود الإنساني الذي تبلور إلى صياغات متعددة ذات توجهات معرفية ومعتقدية، كالعرفانية، والرموز الدينية التي تمثل الشعائر والطقوس. فاللون هنا حامل للقدسية ولتاريخ حافل بالطقوس الشعبية.
ـ تنشيط المخيلة الفنية باتجاه خلق الجمال، عبر إثارة طبقات الذاكرة المعرفية واستدعاء الرموز والأشكال، بما يؤمّن الصياغة الجديدة المعتمدة ـ كما ذكرنا ـ على المخيّال الجمالي. فالأشكال والرموز تبدو بمألوف الرؤية أشكال مألوفة، ومن هذا المألوف تنبثق الرؤية الجديدة لمثل هذا الشكل أو ذاك. فالفنان يعمل على تأصيل رموزه وصياغة أشكاله، المتعلقة أساساً بالمكان المُغادر. فالاستعادة هذه حاملة لمشاعر ذاتية تدفع الوحشة الذاتية والتغريب، من خلال فتح أُفق اللوحة بمثل هذه الرموز والأشكال المتكررة على أنماط مختلفة.
ـ العود الأبدي كما ذكر مرسيا إلياد/ عبر استعادة صورة البيئة المائية ومكوناتها كالمشاحيف والزوارق وأعواد القصب والبردي وحيوات البيئة المائية. والفنان هنا يمارس استعادتها كرموز يتصرف بطبيعتها من أجل خلق رموزه منها. فهو يُحضرها كإضافات لمشاهد، أو بدائل عن بعضها. المهم أنها تشكل في ذاته صورة النقاء البيئي المغادّر. بمعنى أن الفنان في حنين دائم للماضي مكاناً وزماناً، عبر صياغة رموز أمكنته التي غادرها.
ـ الاعتماد على الصياغات الشعبية للرموز التي صاغتها المعتقدات الميثولوجية التي عبرت عن نوع من التقية وردع المكروه، كالكف والعين، وتصديها للظواهر السلبية. كان ضمن صياغة طبقات اللوحة ومحتوياتها. كذلك حضور صور الأبواب والنوافذ وما لهما من دلالات كبيرة عند الإنسان.
ـ الجسد وأُسلوب التعامل معه وتحويله إلى دلالات كبيرة كأحداث الحروب متمثلاً في العكاز، كذلك استبدال الرأس بالكرسي، لتجسيد الانتهاك والاستلاب للجسد عبر تشويه صورته.

هذه المثابات القرائية، تصل باستنتاجها إلى أن الفنان يعمل على خلق فضاء خيالي غير مطلق، بل محدد برؤى ذاتية تستند إلى تاريخ بيئي ــ مكاني يستعيد رموزه باستمرار لإحداث التوازن الحسي، ويؤكد وضوح الرؤية وصفاء النظرة المتأتية من تجربة غنية، ومعرفة صاعدة ومتواصلة. فالمفصل الأهم في كل ما قرأنا؛ إنه محاط بالحنين إلى جذوره الأُولى المتجسدة ـ كما ذكرنا ـ في مجموعة من الخصائص الذاتية للوحته، وخلقه لجدار فني احتوى رؤاه ورموزه المتعددة والمنظور إليها من زاوية ذاتية وعامة. فهو يحافظ على تاريخه الذي يعتز به كما تكشف عنه لوحاته.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية