جدتي تموت… أريد أن أراها

حجم الخط
1

بالقرب من لافتة ‘معبر ايرز’ كان يقف جندي احتياط، حوالي الخمسين من عمره، على رأسه خوذة متوشحا بندقية إم 16 مُعدة للاطلاق. واقتربت يارا وهي شابة في الـ 16 من عمرها من غزة، منه.
‘الى هنا، الى هنا، ماذا معك في الحقيبة؟’، يسألها.
وأنزلت يارا الحقيبة وفتحتها ونقلتها الى الجندي. وقالت ‘أريد أن أزور جدتي في رام الله’.
‘أنا آسف، لكنني لا أستطيع أن أسمح لك بالمرور’.
‘إنها تحتضر، وهذه آخر فرصة لي لأراها’.
‘لا يوجد ما نفعله، هذه هي التعليمات’.
ويحاول الجندي أن يُهدىء نفسها، فهو يتفهمها ويصعب عليه الأمر، لكنه يُبين لها أن القانون هو القانون وأنه يجب عليها الآن أن تستدير وتعود الى البيت.
وتستمر يارا على الجدل وترفض المغادرة فيسدد الجندي سلاحه اليها ويقول ‘معك ثلاثون ثانية لتغادري، أنت لا تدعين لي خيارا’.
واستدارت يارا وعادت. ونزع جندي الاحتياط الدرع الواقي والسلاح وقال: ‘يؤلمني قلبي، يؤلمني قلبي حقا من اجلها’. ويذرف دموعا ويستدير كي لا يُرى ويمسح عينيه. ويشير للمصور أن يكف عن التصوير.
إن هذه القصة لم تحدث في الحقيقة بل بالتقريب. أي أنها حدثت لكن لا على حدود غزة مع اسرائيل بل في متنزه بات يام. ولم تحدث ‘في الحقيقة’ بل في اطار تمثيلية مع اشخاص من الشارع كانوا قبل بضع دقائق فقط في طريقهم الى شراء أو جري على الشاطىء، ووجدوا أنفسهم فجأة يلبسون لباسا عسكريا ويجب عليهم أن يواجهوا واقع الجنود في الحاجز.
هل أنتم مُبلبلون؟ تعالوا نصنع نظاما. إسمي ايتمار روز وأنا أنتج في السنوات الاخيرة أفلاما قصيرة ساخرة، مضحكة مُرة، تتناول صراعات مركزية في المجتمع الاسرائيلي. وأفلامي هي نوع من تجربة اجتماعية موثقة، فأنا أتجه الى اشخاص عارضين في الشارع وأطلب اليهم أن يخصصوا لي بضع دقائق وأن يمثلوا معي تمثيلية أجلعهم فيها يواجهون وضعا غير سهل من الحياة. وقد توجهت في أحد الافلام القصيرة الى اشخاص في الشارع في نتانيا وطلبت اليهم أن يمثلوا معي تمثيلية أدوار. فأمثل أنا الجد ويمثلون هم عائلتي. وأقول لهم إنني لم أعد قادرا على العناية بنفسي وأفرح اذا استطاعوا أن يأخذوني الى بيتهم ليعتنوا بي في سنواتي الاخيرة. ومن هنا يبدأ حديث غير يسير بين جد وعائلته يحاول فيه بعض الاشخاص أن يقنعوني بأن الحال في دار عجزة أفضل، فبعضهم مستعد لأن يأخذني اليه، ويدخل عدد جدلا غير سهل في مسألة ‘ماذا يُفعل بالجد؟’.
وفي فيلم آخر قصير اضطر الاشخاص في الشارع الى مواجهة إبن يبلغهم أنه لوطي. قال شخص ما ذات مرة إن عملي يشبه الكاميرا الخفية. والغاية هي فعل شيء ما يثير التفكير وينجح في التأثير والزعزعة والاضحاك والاغضاب وكل ذلك في فيلم قصير مدته خمس دقائق. وفي فيلمي الأخير الذي وصفت بعضا منه أعلاه طلبت الى اشخاص في الشارع أن يمثلوا دور جندي في معبر ايرز وأن يواجهوا وضعا صعبا لكنه يومي تقريبا وهو وضع فتاة ما تسكن في غزة وتريد أن تزور جدتها المريضة في رام الله ولا تستطيع فعل ذلك لأنه مخالف للتعليمات. وثارت الفكرة على إثر لقاء مع العاملين في منظمة ‘غيشه’ التي تدفع قدما بحرية تنقل الفلسطينيين في المناطق. وربما يبدو ذلك سهلا على الورق لكن كيف نجعل الناس يوافقون على المشاركة في شيء كهذا؟.

الثلاثاء، الساعة السابعة صباحاً، وفي متنزه بات يام

وصلت الى المتنزه مع مصورين ومهندس صوت وممثلتين. أما يارا وهي شابة من يافا فتمثل دور فلسطينية من غزة في الخامسة عشرة من عمرها تريد أن تزور جدتها المحتضرة. وتمثل أفيفا من أسدود الجدة المريضة التي تعيش في رام الله. وبحسب التعليمات لا يُسمح إلا لأقرباء من الدرجة الاولى باللقاء.
ولجعل متنزه بات يام شيئا يُذكر بمعبر حدودي بين غزة واسرائيل وضعت في المتنزه سلكا شائكا صغيرا وعلم اسرائيل في جانب وعلم فلسطين في الجانب الآخر. وكل ما يُحتاج اليه الآن أن نجد اشخاصا يوافقون على أن يخصصوا لي بضع دقائق وأن يمثلوا معي تمثيلية لطيفة لصباح يوم الجمعة أن يمثلوا دور جنود في معبر ايرز.
ونبدأ العمل. توجهت الى عدد من المارة في المتنزه وطلبت اليهم أن يشاركوا في القطعة التي أصورها. وبعد عدد هربوا لمجرد رؤيتهم آلة التصوير حتى قبل أن استطيع أن أقول لهم ما الذي أطلبه، نجحت في الامساك ببالغ وقف للحديث، ويبدو أنه مطلع على الأمر.
وأخذته الى ‘الموقع’. وحينما رأى علم فلسطين قال لي ‘إسمع، لماذا تضع علمهم بالقرب من علمنا. إعلم أن امورا كهذه في بات يام يمكن أن تكلفك ثمنا باهظا! يوجد هنا غير قليل من المجانين. فلو كنت مكانك لطويت العلم الآن وهربت من هنا’.
وأحاول أن أبين له أن الاعلام والسلك الشائك واللباس العسكري والسلاح هي في الحاصل العام أدوات في التمثيلية بحيث لا يوجد ما يثير الغضب. ولم تأت هذه التمثيلية لتقول ما الصحيح وما هو غير الصحيح، ومن هو المحق ومن هو المخطيء، ومن هو الخير ومن هو الشرير، أوضحت له. إن هذه التمثيلية قد جاءت لتُمكن مواطنين عاديين من أن يكونوا لبضع لحظات في النعال غير السهلة لأبنائنا الذين يخدمون كجنود في الحواجز.
وأعود الى الحدود المرتجلة. وُجدت مشاركة اولى! وضعت خوذة على رأسها وألبستها درعا واقيا وأعطيتها بندقية إم 16 وضعتها بصورة حرفية تستحق التقدير. وأُبين لها القواعد: أنت جندية في معبر ايرز. والى هذا المعبر يأتي فلسطينيون يريدون المرور الى الضفة الغربية. يجب عليك أن تفتشي كل من يصل الى الحاجز وأن تقرري هل تدعينه يمر أم تعيدينه. قرري ما تشعرين بأنه صواب، وسايري قلبك. أنا قائدك، وأنا أعتمد عليك اعتمادا تاما وأنا أدعمك في كل قرار تتخذينه.
واؤدي التحية العسكرية للجندية وأترك لها حراسة الحدود. وبدأت التمثيلية. وقفت المشاركة الجندية متأهبة تنظر صوب غزة (شاطىء بات يام). وصعدت على الدرج شابة مع حقيبة ظهر ولباس مدرسة. وحينما اقتربت من الحاجز صاحت بها المرأة ‘أب، أب، أب. قفي هناك، لا تقتربي! أنزلي الحقيبة وافتحيها بحذر وأريني ماذا يوجد في داخلها’.
وبحثت المرأة بمهارة في داخل الحقيبة وبعد أن بدا أن كل شيء على ما يرام سألت: ‘ما الذي تبحثين عنه هنا اذا؟’، ‘جئت لأزور جدتي في رام الله، فهي تحتضر’. وبيّنت المرأة أنه لا يوجد ما يُفعل وأنها لا تستطيع أن تدعها تمر. وتصر يارا، وتسدد اليها المرأة الجندية سلاحها وتقول لها: ‘لا تصنعي لي مشكلات، يلا، إتجهي الى الخلف وامضي الى البيت’.
وصور المقطع الاول وألبس شخصا آخر من المارة لباسا عسكريا وأبين له قواعد التمثيلية وأقول له إنني اعتمد عليه في الحدود، وحينها تظهر سيارة شرطة. خرج رجال الشرطة وقالوا إنهم تلقوا نداءا. وكذبت على رجال الشرطة قائلا إننا نصور فصلا من برنامج جديد للقناة العاشرة يجب أن يؤدي اشخاص من الشارع فيه في كل مرة دورا في وضع فيه صراع وهم في هذه المرة جنود في الحاجز. وبرغم صيحات لاعبي الشيش بيش الذين يلعبون غير بعيد عنا، هدأهم أحد رجال الشرطة وأوضح لهم أنه توجد حرية تعبير وأننا اذا أردنا أن نصور فيلما قصيرا مع علم فلسطين فاننا قادرون على فعل ذلك حتى لو أثار ذلك غضبهم بصورة شخصية.
ويغادر رجال الشرطة ونستمر نحن برغم صيحات لاعبي الشيش بيش الذين لم يعد العلم وحده يضايقهم بل العربية العجوز في كرسي العجل. وحينما يتبين لهم أنها في الحقيقة جدة مغربية من أسدود يقل التوتر ونتابع عملنا.
وتقف امرأة بالغة تحمل السلاح مُعدا وتنتظر. وجاءت يارا وتحدثت عن الجدة المريضة. وأنصتت اليها وتفهمتها وأوضحت لها، لكنها لم تستطع أن تدعها تمر. ‘اذا لم تُدخليني، فانك تستطيعين على الأقل أن تؤدي الى جدتي بضع كلمات باسمي’، طلبت يارا، ‘إنها تنتظر في الجانب الآخر من الحاجز. ووعدتها الجندية قائلة ‘ساؤدي اليها’. قولي لها ‘يا جدتي أنا أحبك، كوني قوية’ وعانقيها عناقا قويا باسمي. ‘أنا آسفة، أنا آسفة حقا’، تقول المرأة صارفة نظرها في حرج. وتمضي يارا وتنتقل المرأة الى الجانب الثاني من الحاجز، وتتقدم من الجدة التي تنتظر هناك وتُبين لها أنها لم تستطع جعل يارا تمر. ‘أنا آسفة، هذا هو القانون، أعذريني’. وتحزن الجدة وتتقدم المرأة منها وتحتضنها وتقول ‘هذا عناق باسم يارا، أشعري شعورا طيبا وكوني قوية’. وتبقى الاثنتان متعانقتين وتلاطف المرأة الجدة.
وفي اثناء ذلك ألاحظ في الواقع خارج الفيلم القصير شلومي لحياني رئيس بلدية بات يام المتجه الينا. ‘ماذا تفعلون هنا؟ أمظاهرة؟ ألا ترى أن هذا يضايق الناس هنا؟’، سأل. وفي الرد على ذلك استللت الكذبة الناجحة من الواقعة السابقة مع رجال الشرطة. وفي اللحظة التي سمع فيها لحياني بعبارة ‘برنامج في القناة العاشرة’ تغيرت لهجته فتمنى لنا النجاح وسار في طريقه. ووقفت لأفكر لحظة. إن فريق التصوير والممثلات خائفون من الوضع كله. فلا يمكن الاستمرار على هذا النحو، فاستقر رأينا على أن نحزم أمتعتنا وأن نكمل في حديقة مئير في تل ابيب.

الثالثة في حديقة مئير – تل ابيب

انشأنا مرة اخرى الحاجز في حديقة مئير وبدأنا التصوير. ودفعت ثلاث بنات مثلن واحدة بعد اخرى طلب يارا بدعاوى مختلفة: ‘تحدث في كل يوم في العالم أمور مع التعليمات لكنها ضد للبشر، لكن لا يوجد ما نصنع، توجد تعليمات وهذا هو’.
‘لا يمكن المرور الآن، حاولي في الاسبوع القادم’، قالت احدى الجنديات. يارا: ‘ماذا يعني هذا؟ وماذا يكون اذا لم توجد بعد اسبوع؟’.
جندية: ‘لن تكون اذا، فالناس يأتون ويذهبون كالمال، ولا يوجد ما يُفعل’.
ويمثل شابان معا دور جنديين. وحينما تقترب يارا يسددان السلاح اليها ويطلبان أن تقف في مكانها فتقول: ‘جدتي في رام الله تحتضر، دعني أمر’. فيجيبها الجندي: ‘ومن يعني هذا، لن تمضي الى أي مكان’. وتقترب يارا منهما برغم التحذيرات.
أصبح الجندي عصبيا. ‘إرمها بالرصاص، إرمها بالرصاص’، قال لصاحبه الذي رفع بندقيته الـ إم 16 وسددها الى صدر يارا وضغط الزناد صائحا ‘بوم، بوم، بوم، نار’.
وعرضت المشاركة الاخيرة نفسها أنها منتسبة قديمة الى الليكود. وحينما اقتربت يارا منها انطلقت تخطب خطبة عصماء عن فساد سهى عرفات وكبار مسؤولي حماس، الذين يسطون على المال الذي يرسل الى غزة من العالم كله ويدعون الفلسطينيين جوعى. وبعد جدل طويل تقول الليكودية الشديدة الحماسة ليارا: ‘لأنني فتشتك وأعتقد أنك ماضية حقا الى جدتك ولا يوجد عليك أي شيء، تستطيعين الدخول’.
وتتردد يارا فتقول الجندية ‘كل شيء على ما يرام، أدخلي’، وتمد يدها الى يارا وتساعدها على اجتياز الحاجز وتودعها بعناق. وأوضح لليكودية أنه لا يجوز بحسب التعليمات لقريب ليس من الدرجة الاولى (أم أو أب أو أبنائهما) المرور من غزة الى الضفة وعائدا منها، وأنهم ربما كانوا يحاكمونها على ذلك في العالم الحقيقي. وتضع يدها علي وتقول ‘ماذا تريدني أن أفعل؟ إنها في الحاصل العام بنت حلوة ذاهبة لتزور جدتها’.

ايتمار روز
يديعوت 22/4/2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    لو كان للفلسطينيين جزء مما لدى هتلر، ولو كان للصهاينة على أرض فلسطين
    نصيب مما قدمه صاحب الصليب المعكوف لهم سابقا لما سخرت من لا رحمة في قلبها وذاك حال كل الصهاينة. ففلسطين أو القدس أو الأقصى إذا ما طرقت مسامع الصهيوني جفل عقله وشرد ذهنة وتصبب عرقا لأمر يعلمه الله وانتابته نوبة قلبيه يكاد يسقط على أرض لا يستحق حتى المشي علهيا. فكيف إن حاربت الصهيوني أيها الفلسطيني بسلاح هو صانعه؟

إشترك في قائمتنا البريدية