حين شعر محمود درويش بأن قلبه بدأ يخذله، تمنى لو أمهله القدر ليحيا سنة إضافية واحدة. فهي، بالنسبة إليه، كانت «تكفي ليعشق عشرين امرأة وثلاثين مدينة»، ولربما قنع غيرُه بيوم أو بعض يوم ليفعل ما يريد، فالوقت، في النهاية، وعي وإدراك قبل أن يكون زمنا يتقلص أو يتمدد، وإلا فلمَ فاضت خمس دقائق عن حاجة بطل دوستويفسكي المهدد بالإعدام؟ بيد أن نيكوس كازنتزاكي كان طماعا أكثر، وعلى قدر طمعه سيُجزى الجزاء الأوفى. فبعدما وهن منه العظم، وهو في الرابعة والسبعين، تضرع إلى الله أن يمد في عمره عشر سنوات، وكان. لم يكن راغبا في العيش «حيوات متجاورة» زيادة، ولا مُداريا لـ»موت مختلف» يترصد خلف الباب، وإنما لأنه رأى ـ ويا سُرَّ من رأى- أن عليه إنهاء «تقريره إلى غريكو» قرينه المُجتبى. ثـُمّ لا ثـُمّ.
وها يحيى النميري النعيمات، المعروف بأمجد ناصر، يفاوض السماء من أجل كتب كثيرة مُرجأة، في ما الطبيب لا يرى حلا – بعدما تعذرت الحلول- إلا في «الهوسبيس»، غير مدرك لكون الشعراء يقيمون في اللغة لا في دور الرعاية. فلئن كان مطمح الناس أن يتملكوا من الثروة والجاه ما يتحصلون عليه بالتدافع، ومما ترك الأبوان والأقربون، فإنه ليس للشعراء، من دنياهم، سوى قبض كلمات مرصعة بالمجاز. تلك هي ثرواتهم التي لا تقبل النفاد. بها يدفعون الغوائل ويقايضون الهشاشة والغياب. لذا ليس غريبا على الشاعر أمجد ناصر، أن يقلق بشأن كتبه التي لم يكتبها بعد، أكثر مما يقلق على وضعه الصحي الصعب. فهو يتمسك بها في إصرار كشأن رصفائه الكبار، وما همَّ أن يتخلى عنه الطبيب بدعوى «ترتيب الأولويات». فإن يُترك الشاعرُ لشأنه أوْلى له من رحمة «الهوسبيس». فلم يكن الهوسبيس، يوما، ملاذا ملائما للشعراء ولا هم جديرون به، لأنه يعرقل خططهم ويعرقلون خططه. فالشاعر أمّة لوحده، فيما الهوسبيس مأوى لا يتسع لغير فرد أوحد. الشعر صخبٌ ضاج بينما الهوسبيس مأوى يحاصره الصمت. ولعل الكتابة – وكتابة أمجد- هي النقيض الجذري للتخلي بما هو استسلام لقدر لا راد له: قدر الصمت والغياب. هكذا ألفيناه في تجاربه الشعرية، يرتقي الدرجات التي قطعها صنوه كازنتزاكي، درجة درجة، إلى قمة «الجلجلة»: وهي أربع لا غير، ولا يسمح السياق بتعدادها هنا، مشدودا إلى الذاكرة الجانحة إلى تأبيد الوقائع ضدا على التحلل والنسيان. ففي كل قصيدة من قصائده صدى لملحمة، وفي كل ديوان بحثٌ عن معنى هارب تحاصره اللغة المدججة بالمجازات، فإذا النسوغ، رغم اليباس، تتجدد، ولو «حيث لا تسقط الأمطار». لا لأن قوانين الفيزياء تقول بذلك، وإنّما لأن الشعر «ليس حسابا رياضيا» ولا الطب نفسه، بل هو اقتراح جمالي مشحون بالتوترات. لاسيما حينما يكون صاحبه من عيار عرار الثاني «الأمجد»، ذاك الذي ينازع اللاشيء، ويتوق إلى مطلق لا يطاوله اليباب، غير عابئ بما ينذر به «المرنان المغناطيسي» الذي ضلّل الروائي جورج سيمنون، زاعما بأن حظه من الحياة لن يتعدى أسابيع. وبدل كل التكهنات مات الطبيب وبقى سيمنون حيا… إلى الأبد!
إن صاحب «هنا الوردة» يدفع بالقصيدة نحو تخوم تحاذي النثر، بدون أن تتخلى عن «شعريتها» الكاسحة، بل إنه يسعى في رحلته الإبداعية إلى مأزقة تلك الصنافات المدرسية التي تتشبث بخرافة «الجنس الأدبي» ذي النقاء المزعوم، منتصرا لـ»الكتابة» مع ما في ذلك من مجازفات، وما قد يجره عليه من انتقادات. وعليه فإن أمجد ناصر ليس شاعرا إلا من باب الترخص في التسمية والتوصيف، إنه كاتب مُتعدِّد تشي به فرادته في الشعر والنثر على السواء، إفرادا وتثنية. فهو كما قلنا يخرق الحدود بلا هوادة، لذلك فهو يقيم في البين بين، وإن كانت إقامته الدائمة قريبا من كوكب اللغة بعيدا عن الهوسبيس.