القدس/ “القدس العربي”:
يتدحرج موضوع “شيقل القدس” في المجتمع الفلسطيني.. فقد احتاج الأمر لأكثر من أربعة أيام ليثير كل الجدل على المنصات الاجتماعية وأحاديث المواطنين. بدأ الأمر على شكل رفض خجول على المنصات ومن ثم تطور على شكل فيديوهات أعلن فيها مؤثرون وإعلاميون ونشطاء، بعضهم من القدس، عن موقفهم من المسألة التي فرضت فيها السلطة الفلسطينية مبلغ “شيقل واحد” شهريا على فواتير المواطنين على شبكات الاتصال الثابت والخليوي.
وآخر تجليات الموقف الشعبي قيام محام من قطاع غزة بإخطار قانوني ضد شركة جوال في قطاع غزة يتضمن رفض إضافة مبلغ شيقل على الفاتورة، وشدد المحامي المخطر سعدي عطا الله أن قيام الشركة بذلك يعني أنه سيقوم باتخاذ المقتضى القانوني المطلوب وبإلزام الشركة بدفع أي مبالغ يتم إضافتها ومطالبتها بالتعويض وبكافة الوسائل القانونية.
وكان آلاف المشتركين قد استقبلوا رسائل نصية موحدة من شركات الهواتف خلال اليومين الماضيين نصت حرفيا على: “التزاماً بقرار سيادة الرئيس، سيتم إضافة شيكل واحد على فاتورتكم شهرياً ولمدة 12 شهراً ضمن مبادرة لدعم صمود أهلنا في القدس”.
وتتوقع السلطة الفلسطينية عبر هذا الإجراء الاجباري جمع ما يقرب من 60 – 70 مليون شيقل إسرائيلي في الخطوة التي تم تعزيزها بقرار بقانون وقع عليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل أيام.
وكان رئيس الوزراء محمد اشتية قد أعلن، في جلسة مجلس الوزراء رقم 190، أن الرئيس محمود عباس أصدر قرارًا بقانون لتنظيم جمع التبرعات من مشتركي خدمات الاتصال بفلسطين، انسجامًا مع قرارات القمم العربية والمؤتمر الاقتصادي الإسلامي بحيث تتم المساهمة بشيقل واحد، تجبى على الفاتورة الشهرية، وسيتم تحويل هذه المساهمة، مضافًا إليها التبرعات العربية والإسلامية إلى حساب خاص لدى البنك الاسلامي في جدة، ليتم تخصيصها للصرف على المشاريع التنموية في القدس.
وأضاف اشتية، أن صرف هذه الأموال سيتم “وفقًا للأولويات المعتمدة بقرار من مجلس الوزراء، بهدف تعزيز الصمود، وتحقيق الدعم، والإسناد لأبناء شعبنا في القدس، في ظل ما تتعرض له من هجمة احتلالية استيطانية تهويدية، والتراجع الحاد في المساعدات الدولية”.
ولا يبدو أن الأمر متعلق بقيمة المبلغ (حوالي ثلث دولار أمريكي) إنما كان فرصة كبيرة للتأكيد على حالة عامة من غياب ثقة المواطنين الفلسطينيين بحكوماتهم أمام تجارب قديمة سابقة.
وبحسب المحامي الدكتور عصام عابدين فإنه حتى اللحظة لم يتم نشر قرار بقانون “شيكل القدس” في الجريدة الرسمية. وإنه يُمكن أن يتم النشر بالجريدة الرسمية لاحقاً بطريقة “احتيالية” وفارغة من المضمون وغير شفافة ودون خطط وآليات ورقابة على التنفيذ وتقارير منشورة للناس لمعرفة مصير أموالهم!
وقال عابدين إن أيّ مساس بأموال الناس (رسوم، ضرائب، قروض عامة، موازنات..) عنوانه الدستوري الوحيد هو “التشريعي” ووفقاً للدستور والقانون. وطبقا لذلك فإنَّ قرار بقانون شيكل القدس منعدِم، لمخالفته أحكام القانون الأساسي (الدستور) وليس من صلاحيات الرئيس المنتهية ولايته؛ كون صلاحياته “حصرية ثانوية” في الدستور الفلسطيني وليس من بينها أية صلاحيات مالية (121 مادة) على الإطلاق.
وشدد عابدين أن بيت القصيد أنَّ أية إضافة لأية صلاحية للرئيس “غير مُبيّنة/ مُحدّدة” في القانون الأساسي، بقرار بقانون، تعني أن “القرار بقانون” قام بتعديل “الدستور الفلسطيني “بإضافة صلاحية جديدة للرئيس غير واردة في الدستور”.
وتساءل على أيّ أساس منحت شركات الاتصالات “عقود امتياز” قطاع الاتصالات خلافاً للقانون الأساسي (الدستور) في معادلة “الفساد المُمَأسس” ستقوم بخصم شيكل على الناس خلافاً للدستور؟! ورغم عدم وجود خطط منشورة للناس تُبين كيفية ومجالات صرف الأموال الطائلة (شيكل القدس) في ظل غياب الشفافية والحَوكمة والرقابة والمساءلة.
وطرح أسئلة: “ألَم يتم خصم أموال من رواتب الموظفين العموميين في القطاع العام في السابق من أجل دعم القدس؟! هل يعلم أحد أين ذهبت تلك الأموال (أموال الموظفين) وكيف صُرفت تلك الأموال؟! هل هناك تقارير مالية وتقارير أداء منشورة لإطلاع الناس عليها؟! وماذا عن الصناديق المالية (صندوق وقفة عِز وغيره)؟! وماذا عن مصير الأموال والتبرعات المقدمة لصالح مستشفى خالد الحسن لعلاج السرطان.. وغيره من أوجه الفساد المُمَنهج بالبلد؟”.
قانون العاصمة
ويرى عابدين أن حقوق أهل القدس، واضحة، وواردة في قانون العاصمة رقم (4) لسنة 2002 وأساسها احترام الدستور وسيادة القانون. ورغم تأكيد قانون العاصمة على تخصيص ميزانية مالية خاصة بالقدس فإن “جميع” الموازنات العامة الفلسطينية لا تحتوي على “عنوان مالي” خاص بالقدس نهائياً. وهذا انتهاك فج للقانون الأساسي، وقانون العاصمة 2002، وقانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية 1998.
وشدد عابدين أن أهل القدس، أصحاب حق قانوني، واضح كالشمس، وهم يريدون أموالهم بموجب قانون العاصمة رقم (4) لسنة 2002 الذي أقرّه “التشريعي” أهل القدس يريدون أموالهم (حقهم) “بأثر رجعي”. وأهل القدس متمسكون بالدستور الفلسطيني وقانون العاصمة 2002، ولا يُزَجُّ اسمهم وصمودهم ورباطهم في انتهاك الدستور وسيادة القانون لا من أجل اجتماع عربي ولا حتى اجتماع للأمم المتحدة.
بدوره شن الإعلامي المقدسي أحمد البديري هجوما عنيفا على قرار الحكومة الفلسطينية معتبرا أن هناك سلسلة من الممارسات جعلت من المواطنين لا يثقون في صدق الحكومة ولا فيما تعلن عنه من مشاريع أو جمع أموال لصالح قضايا وطنية.
وقال في فيديو طويل نشر على صفحته على الفيسبوك: “لماذا تحول أموال التبرعات لبنك التنمية الإسلامي في جدة؟ ولمن ستعود الأموال بعد أن تجمع؟ ومن هي المرجعية المقدسية التي سيتم تحويل الأموال اليها في ظل تناحرها وعدم اتفاقها وفي ظل تعدد المرجعيات في المدينة؟”.
وعدد البديري أكثر من سبع مرجعيات وطنية ورسمية وحزبية في مدينة القدس مؤكدا أنها تعمل بطريقة متعارضة مع بعضها البعض.
وأكد البديري على أن السلطة لا تقوم بمحاربة الفساد حتى تقنع المواطنين الفلسطينيين والعرب بأنها تفعل ذلك وهو الأمر فيما لو حصل فإنه يمكن أن تنال ثقة المواطنين، فيما الهيئة التي وجدت لهذا الغرض تفعل كل شيء إلا محاربة الفساد.
وتساءل الناشط والكاتب محمد علان دراغمة لماذا يطلب من المواطنين الثقة في آلية جمع الحكومة للتبرعات؟ وضرب بدوره أمثلة قديمة وجديدة تؤكد ان هناك تاريخا طويلا من مسلسل عدم الثقة.
وأضاف: “شاركت ضمن مجموعة “نشطاء المجتمع المحلي” في طوباس وكنا جزءا من حملة جمع التبرعات لصالح بناء مستشفى خالد الحسن للسرطان لكن المشروع ذهب أدراج الرياح”.
وأوضح أن الثقة في التبرعات الرسمية تفترض وجود رقابة من جهة محايدة أو حتى تقوم عليها جهات غير رسمية، وفي حال لم يتوفر ذلك فالأمر من دونها أفضل.
بين الجد والسخرية
سخرية مرة وحالة من الكوميديا فجرها القرار والحكومي الذي تحول إلى ممارسة بعد رسائل شركات الاتصالات للمشتركين. الناشط والمدون عامر حمدان سخر من قرار خصم شيكل على فواتير الاتصالات بحجة دعم القدس وقال إنه رفض تقديم المبلغ للقدس وبعد أن ذهب للنوم حلم بأنه يسير في شوارع المدينة المحتلة فيما كان المقدسيون يقذفون عليه الحجارة ويتهمونه بالعمالة وصاحب الأجندات، وهو الأمر الذي دفعه إلى تغيير موقفه من تقديم الشيقل للمدينة.
وانتشر ملف صوتي عبارة عن اتصال هاتفي يجريه مواطن غاضب على شركة اتصال فلسطينية ويتساءل فيه عن أسباب زيادة مبلغ شيقل على فاتورته، فيما هدد موظفة الاستقبال بأنه سيرمي شريحته إن تم تكرار فعل إضافة شيقل.
وقال الشاب الغاضب: “أنتم تحاسبوني على كل أغورة (أقل وحدة بالعملة الإسرائيلية) فيما لا تسامحوني بأي مبلغ”، وتساءل هل تعطيني السلطة شيقل في حال عجزت عن التسديد؟ هل تسامحوني بشيقل فيما لو عجزت عن التسديد؟
وكان رد الموظفة أن أسئلة المتصل مقدرة لكنها لا تملك ردا عليها وأنها ستحيل الأمر للجهات العليا.
ويرى الكاتب إياد الرجوب أن قصة نهب المواطنين بدأت قبل سنوات فيما تكرار الأمر جعل هذه السياسات معتادة من المواطنين.
وقال: “في ذات يوم خصم فيه يوما عمل للموظفين الحكوميين على شكل تبرع لمستشفى خالد الحسن للسرطان، وهو أمر تواصل على شكل ظلم تعرض له المواطن على شكل تأخير صرف 1.25% من غلاء المعيشة، وتأخير صرف ال 1.25% السنوية لمدة 10 سنوات، وتأخير صرف الرواتب 10 أيام من كل شهر، وتأخير صرف الرواتب شهرا، وصرفه ناقصا 20%، وزيادة البنوك مبالغ على شكل فوائد على الموظفين المقترضين نتيجة تأخر الرواتب أو صرف 80%، وأخيرا تدفيع صاحب كل خط اتصال شيكل شهريا كتبرع إجباري”.
وختم بحسرة: “الحقوق والمبادئ كالمسبحة، إذا فرطت خرزة تفرط المسبحة كلها”.
مثير للغضب
أما الناشط فؤاد أبو حامد فقال إن الأمر مثير للسخرية والحزن معاً، فآخر قرار فلسطيني لدعم القدس، ومثير للغضب أكثر.
وأضاف: “تزامن هذا القرار مع جلسة للجنة المالية التابعة لبلدية الاحتلال في القدس، التي صادقت على مشاريع للقدس الشرقية بقيمة 325 مليون شيقل. هذا الرقم أكثر من عشرة أضعاف الرقم المتوقع من الحملة، هذا طبعاً في حال وصولها إلى أهل القدس”.
وتابع: “هذه اللجنة المالية الاحتلالية تنعقد مرة كل شهرين، ومعدل هذا الرقم يتكرر تقريباً كل شهرين منذ العام 2018. فهذه الميزانيات جزء منها مقدم من ميزانية البلدية التي تصل إلى 6.5 مليار شيقل في العام، والجزء الأكبر منها أموال حكومية مباشرة للقدس الشرقية، وذلك حسب قرار الحكومة الإسرائيلية الصادر عام 2018 ورقمه 3790، الذي سمي قرار جسر الفجوة الاقتصادية والاجتماعية في القدس”.
وأشهب أن قرار الحكومة المذكور، ومدته 5 سنوات، ينتهي هذا العام وقد بلغت قيمته 2.1 مليار شيقل. ومن المقرر أن تصادق الحكومة في “يوم القدس” المقبل على قرار جديد سيبلغ حجمه ضعف القرار السابق، أي بأكثر من 4 مليارات شيقل.
وتابع: “تأتي هذه الميزانيات ضمن خطة مدروسة وممنهجة جيداً للقضاء على أي حلم سياسي للفلسطينيين في القدس، فقد أدركت إسرائيل أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي للسيطرة على القدس، ولا بد من تحسين حياة المقدسيين، أو من بقي وسيبقى في القدس”.
وختم أن القضية هنا ليست بقيمة قرارات الرئيس المالية، رغم هشاشتها حقيقةً، بل بكل المنظومة الفلسطينية المتعاقبة في إدارة ملف القدس، من شعارات رنانة فارغة المضمون، لفساد، لانعدام دعم المؤسسات، لرموز وتنظيمات لا تؤدي دورها”.