هل تحقيق الأهداف النبيلة يتطلب في بعض الأوقات اقتراف أعمال غير مشروعة؟ وفي هذه الحالة، هل تعتبر عواقب الجريمة طيبة أم خبيثة؟ قد يجرِّم البعض المسألة برمتها؛ لأن ما بُني على باطل، فهو باطل. وبالنزول لأرض الواقع، من يمسه الخير يبرر بأن ما تم اقترافه من جرم ليس بالخبيث. وأبسط مثال على ذلك، البطل الأسطوري المحبوب «روبن هود»، فعلى الرغم من أنه مجرد لص، لكن العامة يعتبرونه بطلاً، لأنه يأخذ من أموال الأغنياء ليوزعها على الفقراء، أي يحقق عدالة اجتماعية مفقودة. لكن من أعطاه حق إعادة تقسيم الثروات؟ تساؤل لو أُجيب عليه بشكل منطقي، لسوف يوسم «روبن هود» بالعار.
ومثال آخر لشخصية محبوبة «علي بابا» الذي لم يكتف فقط بسرقة أموال الأربعين حرامي، لكنه أيضاً قتلهم، لكنه لدى الجميع رجل صالح، وأن ما سرقه من أموال هي المكافأة التي نالها لصبره على فقر مدقع.
وبالقياس على المسألة الجدلية الكبرى التي تتعلق بمشروعية السرقة والقتل وإعادة توزيع الأدوار والموارد ـ وجميعها جرائم مشروعة لدى مقترف الجرم ـ يمكن إمعان النظر في ما يقوم به العلماء من جرائم لخدمة البشرية، ونخص بالذكر هنا العاملين في مجال الطب منهم. فالطبيب لينقذ حياة الملايين والمليارات، يمكن أن يكون قد آذى الآلاف من أجل اكتشاف دواء ناجع. وفي عصرنا الحديث، هناك متطوعون من البشر لإجراء تجارب عليهم. لكن الجرم الحقيقي، أن يتم إجراء تجارب على بشر بدون علمهم أو موافقتهم، ولأن الجرائم النفسية هي الجرائم الوحيدة التي من الصعب جداً اكتشافها ـ لأنها تتم بشكل خفي على مكان غير معلوم، فهي تعد من الجرائم الشنعاء، التي من الواجب فرض أشد أنواع العقوبة على مقترفيها، لكن للأسف ينجى الجناة من الأذى، وقد يصفق لهم الجميع، وينالون أعلى المراتب. فقد بلغ من بشاعة بعض الأطباء النفسيين الذين قرروا التلاعب بأدمغة البشر، أنهم قد تحكموا في عقل كلب لدرجة أنهم جعلوه يعمل حسب أوامر جهاز تحكم عن بعد؛ أي «ريموت كونترول». وبالتأكيد، وقع الاختيار على الكلاب لأن مخ الكلب هو الأقرب في التكوين لمخ البشر.
الطبيب النفسي الإنكليزي الشهير ويليام سارجنت (1907-1988) هو واحد من الأطباء النفسيين الذين يذكرهم التاريخ لحماسه في العلاج عن طريق الجراحة النفسية (استئصال جزء أو أجزاء من المخ) ، والعلاج بالتنويم لفترات طويلة، والعلاج بالصدمات الكهربائية، وكذلك العلاج من خلال صدمة الأنسولين ـ وفيه يتم حقن المريض بجرعات كبيرة من الأنسولين ليقع في غيبوبة لفترات طويلة. وعلى الرغم من شهرته الكبيرة في عصره، لكن يحجم أي طبيب نفسي شريف، أو طبيب في عالمنا المعاصر ذكر اسم ويليام سارجنت في مراجعه أو أبحاثه؛ لأنه كان قبل أي شيء مجرماً متعجرفاً مصاباً بالاكتئاب المتكرر، في حين يدعي أنه من أعظم من يشفي الأمراض النفسية. وساعدت على ذلك، نظرته الدونية لكل من الدين والبشر.
ترتبط قدرات العقل بالمستوى الفسيولوجي له، ومن ثم ينبغي عدم الإساءة له من خلال فرض أيٍّ من أنواع الغموض السياسي أو الديني، لتحل محل العقل، وكذلك هو الحال عند فرض أي ضرب من العقلانية الفظة
فمثلاً، كان يردد أن العلاج النفسي يمكن أن يعيد حتى الأبناء لصوابهم، ليعدلوا عن أفكارهم الغريبة التي شوهت نفسيات أجيال. ومن مقولاته الشهيرة التي يؤكد فيها التشابه بين مخ البشر ومخ الكلاب: «على الرغم من أن البشر ليسوا كلاباً، يجب أن يعتريهم التواضع، وهم يتذكرون مدى التطابق الهائل بين الوظائف العقلية لكليهما، وألا تصيبهم الخيلاء وهم يحسبون أنفسهم أشباه آلهة. فهم يستمتعون بهبة المخاوف الدينية والاجتماعية، وإن كانت أيضاً قوة العقل هي من أعظم الهبات الممنوحة لهم. وترتبط قدرات العقل بالمستوى الفسيولوجي له، ومن ثم ينبغي عدم الإساءة له من خلال فرض أيٍّ من أنواع الغموض السياسي أو الديني، لتحل محل العقل، وكذلك هو الحال عند فرض أي ضرب من العقلانية الفظة، التي تحل محل «الوازع الديني». ويليام سارجنت يدعي أنه يريد العقل صافيا هادئا وعلى سجيته، حتى يعمل بكفاءة عالية تتناسب ومقداره كهبة فريدة.
ويحكي أحد مرضاه الذين كانوا من شهود العيان على ممارساته الغريبة، أنه عند دخوله عنبر المرضى النفسيين الخاص به، وكان مجرد عنبر بلا حياة؛ فيه أجساد تماثل الجثث، حيث ترقد بلا حراك وتغط في نوم طويل يمتد لأيام وأسابيع وشهور. وكانت تساعده في عمله مجموعة من الممرضات الراهبات، وكانت وظيفتهم صعبة، لكن كان العنــــبر هادئاً تماماً.
فكان علاجه الشهير لمرضاه النفسيين هو التنويم لفترات طويلة Deep Sleep، وفي تلك الممارسة يحقن المريض بعقاقير ومثبطات؛ ليغط في نوم عميق يستفيق منه كل ثلاثة أيام أو أكثر للاغتسال ودخول الحمام. ويقول أحد مرضاه الذي استطاع الخروج من المستشفى، أنه دخل في نوبة اكتئاب ففوجئ بأنه تم اعطاؤه حقنة نام على أثرها لفترة شعر بأنها قد امتدت ليوم واحد بأكمله. وعندما استفاق، أخبر الدكتور ويليام سارجنت بذلك، لكن الأخير نظر إليه ساخراً مخبراً إياه، أنه قد نام لمدة عشرة أيام متواصلة. وبالفعل، لاحظ المريض على نفسه شحوبا رهيبا، كما فقد الكثير من وزنه، وطالب المريض بخروجه الفوري من المستشفى؛ لأن العلاج لم يكن برغبته، لكن فرض عليه فرضاً. وكانت الهالة الرائعة من النجاح التي أحاطت بالطبيب ويليام سارجنت هي السبب الذي جعل الطبيب الأسترالي هاري بيلي يتبع أسلوبه في التنويم العميق عند علاج مرضاه. لكن أفضى الأمر لكارثة حقيقية عند موت 26 من مرضاه دفعة واحدة بسبب التنويم العميق، علماً بأن كلا من هاري بيلي وويليام سارجنت كانا على علاقة وطيدة وكانا يتباريان على من يكون له المقدرة الأكبر على إدخال مرضاه في غيبوبة لفترة أطول. ومن الجرائم الأخرى لهؤلاء الأطباء النفسيين أنهم كانوا أو من أدخل أنواع المخدرات الكيميائية وطرحوها في الأسواق، بل وروجوا أيضاً لها لدراسة تأثيرها على أكبر شريحة ممكنة من البشر، ولتسجيل الظواهر والمشاهدات عبر تطور الحالات. أي أنهم ليسوا فقط يجرون تجارب بدون موافقة البشر، لكنهم يقتلون الملايين يومياً بدم بارد تحت مسمى خدمة البشرية.
فهل هؤلاء الأطباء «روبن هود» أو «علي بابا» آخر ولهم الحق في توزيع الثروات والهبات حسب أهوائهم، وبدون موافقة أصحاب الهبة؟ قد تعتبر هذه الجرائم في نظر الكثيرين جدلية. لكن لفهم مدى خطورتها، يجب قبل أي شيء النظر لها من منظور أخلاقي.
٭ كاتبة من مصر