لم يكن المخرج الإنكليزي جوليان تيمبل، يتصور حجم المشاكل التي سيواجهها بعد اختياره من طرف شاين ماكغوين، أحد رواد الأغنية الأيرلندية، لإخراج فيلم وثائقي حول سيرته الخاصة.
وجد جوليان تيمبل نفسه في مأزق، بعد أن اشترط الفنان الأيرلندي عدم الظهور أمام الكاميرا وكذلك امتناع أعضاء فرقة «دي بوغيس» الإدلاء بتصريحات.. ما حتم عليه أن يفكر في طرق أخرى لإخراج فيلم حول شخصية استثنائية في مجال الموسيقى العالمية.
ويقدم الفيلم السيرة الذاتية لشاين ماكغواين (بومبري/1957) التي يتقاطع فيها مع جوليان تيمبل، بتبادلهما الإعجاب، في فترة المراهقة، لفرقة «سيكس بيستلس» الإنكليزية، قبل أن يخرج فيلما قصيرا عنها سنة 2008. ولأن صاحب فيلم «أصل الأنواع» (2016) راكم تجارب جعلته يقفز أمام ما يعترضه من صعوبات برشاقة فنية، فقد ارتأى أن يجرب خطة للاقتراب من النجم السابق لفرقة «دي بوغيس» حيث سيحيطه بالمقربين حتى يستأنس بالكلام حول تجربته، دون أن يتم إشعاره بالتصوير. وما شجع المخرج الإنكليزي على تصوير فيلم «جرة من ذهب، بضع جولات مع شاين ماكغواين» هو توفر بطل الفيلم على كم هائل من الأرشيف الشخصي، لم ينشر من قبل، يضم صورا عائلية وتسجيلات لحفلاته وجولاته الموسيقية واستجواباته مع مختلف وسائل الإعلام الإنكليزية.
رسوم التحريك
ولتصوير فترة طفولته ولتفادي بياضات تلك المرحلة، اعتمد جوليان تيمبل على رالف ستيدمان، أحد الرسامين المتخصصين في رسوم التحريك، حيث قام بتقديم طفولة الفنان الأيرلندي والاقتراب من بيئته ونشأته الاجتماعية والنفسية.. فمن خلال التحريك، سيتعرف المشاهد على الطفل شاين ماكغوين، وارتباطه بالكحول، الذي لازمه منذ سنواته الأولى، وتربيته الدينية وبداية تعلقه بالموسيقى والحظ الذي رافقه لولادته في يوم الاحتفال بأعياد المسيح وحمله لنبوءة أحد المقربين بأنه سيصبح فنانا كبيرا. ويؤكد النجم الأيرلندي ذلك قائلا: «أعتقد أن السبب يتمثل في كون أنني ولدت في يوم عيد ميلاد المسيح.. إنني أشكر المسيح على ذلك».
في «جرة من ذهب، بضع جولات مع شاين ماكغواين» سيحكي المخرج الإنكليزي حياة بطله الصاخبة التي شغلت إنكلترا، قبل أن تشغل موطنه الأصلي، إيرلندا، وإدمانه بشكل مثير على كل أنواع الكحول والمخدرات والجنس: «لقد تعاطيت كل أنواع المخدرات». كما يروي أيضا التحول الذي عرفه النجم الأيرلندي في بداية مراهقته، بعد اعتناقه للنظرية الماركسية وتخليه عن معتقده الديني المسيحي قبل أن يعود إليه معه مرة أخرى.
اعتمد جوليان تيمبل على تقنية الاسترجاع ليحكي الماضي بصيغة الحاضر، معتمدا على صداقات ماكغواين المتفردة، حيث سيدخل في حوارات حميمية مع كل من الممثل الأمريكي جوني ديب، وجيري أدام، زعيم منظمة سين فين الأيرلندية والفنان الأسترالي نيك كاف، والمغني الأسكتلندي بوبى جيليسپى، بالإضافة إلى بعض أفراد عائلة النجم الأيرلندي.
صداقات استثنائية
يسأل جوني ديب، منتج الفيلم ماكغواين عن رأيه في فيلم «قراصنة الكرايبي» حيث يجيبه دون تردد «لقد قاومت النوم إلى غاية نهاية الفيلم» في الوقت الذي اعترف فيه الممثل الأمريكي بأنه «لم يشاهد الفيلم بعد عرضه على الشاشات».
بين جوني ديب وشاين ماكغواين صداقة تمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود، يقر فيها الممثل الأمريكي بالردود العنيفة والكم الهائل من الشتائم للنجم الأيرلندي أثناء الحديث، والتي تعبر عن طينته الخاصة في تعبيره عن حبه لأصدقائه والمقربين منه: «إنها نوع من الهدايا، يشتمك فقط إذا كان يحبك حقا». وفي علاقته بجيري أدام الزعيم السابق لمنظمة «سين فين» التي خاضت حربا ضروسا من أجل استقلال أيرلندا، تذكر جيري أدام وصية ماك غواين له، أثناء إجرائه لمحادثات السلام مع الوزير الأول البريطاني السابق توني بلير، حيث حمله رسالة مفادها: «يومنا سيأتي» في ما رد عليه توني بلير: «بأنه لا يستمع لأغاني دي بوغيس» قبل أن يرد الصديقان بضحكات صاخبة..
الثورة الأيرلندية
لقد ظل النجم الأيرلندي يحمل هم استقلال أيرلندا، رغم هجرته المبكرة رفقة عائلته، إلى إنكلترا، حيث يعترف قائلا: «أشعر بالذنب لأنني لم أشارك في الثورة الأيرلندية المسلحة، لكنني ساهمت فيها بثورة موسيقية». في الفيلم، يتحدث عن وعيه المبكر بالاستغلال الذي ظل يعانيه الشعب الأيرلندي، ومن التفقير والتجويع الذي عاشه، رفقة أبناء جيله، حيث يعترف بأنهم كانوا يبحثون في حاويات القمامات عن الأكل، في الوقت الذي تنهب فيه خيرات بلدهم..
هلوسات
كما يحكي الفيلم عن هلوساته المرضية، التي أثرت كثيرا في مساره الفني والنفسي، وعلاقاته المتوترة مع أصدقائه الموسيقيين وفصله من المجموعة التي ساهم في تأسيسها.. والروتين الذي أصابه بعد إحياء الفرقة لحفلات يومية، دون توقف ولمدة طويلة، حيث سيوجه نقدا لاذعا لمدير أعمال الفرقة بسبب التراجع في الإبداع الموسيقي الذي عاشته الفرقة في تلك المرحلة..
ندم
ولأنه مر في فترات عصيبة، جعلته يحس بوحدة وفراغ قاتل، فقد اعترف النجم الأيرلندي بأنه أخطأ المسار، بل يشعر بالندم، عندما شارك في أعمال لا تحمل أي روح إبداعية، بل كانت ذات طبيعة إعلانية.. قبل 35 سنة، ونتيجة لإدمانه الشديد على الكحول والمخدرات، اعتبر البعض بأن حياة شاين ماكغواين لن تتجاوز شهورا معدودة، لكنه ظل يقاوم بروحه التي ما انفكت تتحرر من كبح كرسي متحرك لانطلاقة جسد منحه ما شاء من لوازم السعادة وأدوات البهجة..
شاعر أم موسيقي
ورغم أنه شاعر، بالإضافة إلى كونه مغنيا وموسيقيا، فقد ظل يرفض أن ينادى عليه بكونه شاعرا، لأنه في اعتقاده بأنه موسيقي قبل أن يكون شاعرا وأن المناداة عليه بكونه شاعرا فقط ينقص من مكانته الموسيقية. ويتحدث جوني ديب عن موسيقى شاين ماكغواين، قائلا: «إنها تصدمك، بها غضب وحنق موسيقى الروك وأيضا ألحان رائعة معزوفة بآلات موسيقية أيرلندية..» ويضيف النجم الأمريكي «لقد أدهشني ذلك الغضب والحنق الذي شعر به شاين وهذه الكآبة التي كانت في داخله». ويحكي شاين ماكغواين عن تأثره الشديد بأدباء أيرلنديين، وصلوا للعالمية، من أمثال كاتب الأغاني والصحافي والشاعر بيرندان بيهان والكاتب والشاعر جيمس جويس..
منقذ التراث
حمل الأيرلنديون أغاني دي بوغيس في قلوبهم وأصبحوا يتفاخرون بأغانيه ويصدحون بها في الحانات والنوادي الليلية، بل وضعوا نجمها السابق شاين ماكغواين، في مرتبة المنقذ للتراث الموسيقي لوطنهم، بعد أن كان سيطويه النسيان بفعل الاستحواذ الذي مارسه الإنكليز على مختلف المجالات ومنها الموسيقى
في عيد ميلاده الستين، تم الاحتفال بشاين ماكغواين بحضور أصدقائه الفنانين من أمثال بونو وجوني ديب.. وكانت المفاجأة كبيرة عندما حضر الرئيس الأيرلندي، مايكل دانييل هيغينز، لترؤوس الحفل المقام على شرف الفنان الأيرلندي..
فيلم «جرة من ذهب، بضع جولات مع شاين ماكغواين» يحكي حياة نجم تمسك بالهوية الوطنية لبلاده، مدافعا شرسا عن عذابات المهمشين بواسطة كلمات وموسيقى مليئة بالأحزان، حتى إن بدت منفتحة على الفرح، تماما كما تبدو موسيقى أغنية «صيف في سيام». طيلة ساعتين وأربع دقائق، سيجعلها المخرج الإنكليزي، تبدو قصيرة، باستعماله لعناصر تقنية وجمالية أدت إلى تنويع إيقاع الفيلم.. فرغم أنه يحكي سيرة المفرد، فقد بدت السيرة جماعية، بعد مساهمة أصدقاء وأفراد العائلة المقربين، واقتران صاحب السيرة بلحظات مفصلية في التاريخ الجمعي للشعب الأيرلندي. واستطاع مخرج الفيلم أن يكسر رتابة الإيقاع بلقطات مقربة وأخرى متوسطة، في الوقت الذي ترافق فيه الكاميرا الحوار بين شخصيات الفيلم..
كما وظف تقنية الاسترجاع، عندما تلوذ شخوص الفيلم بذكريات الماضي الحميمية منها والجماعية، بل اتكأ على تقنية التحريك، في الوقت الذي لا يسعفه الأرشيف حيث يدع المجال للإبداع الفني للحديث على فترة الطفولة المتسمة بالحرمان..
في «جرة من ذهب، بضع جولات مع شاين ماكغواين» الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي في دورته الـ68، سيتعرف المشاهد على سيرة شخصية قدمت من الهامش لتعتلي منصة الإبداع الموسيقي في مختلف بقاع العالم، حاملة معها حنين وحلم وطن بأكمله..
كاتب مغربي