جزرة

المصائب تقع في كل دول العالم ومجتمعاته، تلك سنة الحياة البشرية التي لا مفر منها. إلا أن المصائب التي تقع في شرقنا الأوسط لها تبعات أخرى لا تنحصر فقط في سوء التعامل اللاحق معها إدارياً وما ينتج عن ذلك من كوارث إضافية حتمية للشعوب، بل إن أهم هذه التبعات وأقساها هو أن هذه المصائب تكشف مكامن خلل وفساد يصعب علينا، حتى نحن سكان الشرق الأوسط، تخيلها، دون أن يظهر معتذر عنها أو متحمل لمسؤوليتها. نعم، أقسى تبعات المصائب هو فرار متسببيها وتحررهم من المسؤولية كما الشعرة من العجين.
انفجر مرفأ بيروت وتزلزلت أجمل مدينة شرق أوسطية يوم الثلاثاء الماضي ليس بتفاعل نترات الصوديوم فعلياً، ولكن بتفاعل فحيح الكاذبين الفاسدين، بتداخل أرياقهم واختلاط أنفاسهم التي سممت البلاد والعباد وانتهت إلى هذا الانفجار البشع. حدثان بسيطان سخيفان تبعا هذا الانفجار يدلان بوضوح على بعض أسباب انتشار الفساد في شرقنا، وعلى أهم أسباب سهولة صعود الفاسدين على ظهورنا ثم فرارهم محملين بالأموال وما استهلكته من أرواح وحيوات. حدثان غبيان، كأقل وصف ممكن، يبينان أن فاسدينا منا وفينا، انعكاس لأفكارنا وتصرفاتنا.
انفجر مرفأ بيروت فيما يبدو كثاني أكبر انفجار بعد انفجار هيروشيما، ليتوالى تعليق الناس حول تغريدة لفنان عربي ذكر فيها محبته لبيروت يومين قبل الانفجار، مشيرين إلى أن هذا الفنان نذير شؤم وأن تغريدته هي التي أسقطت بيروت. ليس الفساد الممتد على مدى قرن من الزمان، وليست السرقات والنهبات والتحالفات السياسية الخربة التي تُقايَض بها أرض لبنان وأمنها كل يوم، ليس الطمع والجشع والحصار، هؤلاء من الجنوب وهؤلاء من الشمال، ليست الأحزاب الخربة والدولة التي هي داخل الدولة، ليست السياحة المنهارة والبنية التحتية المتداعية، ليس أي من هذا أو كل ذلك… إنها تغريدة هي التي تطير منها الشعب العربي، وهي التي تسببت في وقوع بيروت. هل هناك غباء أشد من ذلك؟ وهل يمكن لشعوب تبث هذا الجهل أن تطالب بحقوق وتعدل المائل وتحكم حكوماتها وتسيرها على الصراط المستقيم؟
المصيبة أن هذه التغريدة فتحت باب نزاع «هلوسي» بين الشعوب، شعب الدولة التي ينتمي إليها الفنان فار غضبهم تجاه النقد والسخرية، والشعوب المجاورة الأخرى تمسكت بتطيرها وتشاؤمها، فترك المعظم الكارثة، ليقع خلال الساعات الأولى من الانفجار نزاع شديد اللهجة بين المتطيرين من تغريدة الفنان والمدافعين عنه. وحين اقتبستُ تغريدته الرقيقة معتقدة أنني أواسي بها أهل لبنان (قبل أن أعرف بالحكاية الغريبة المريضة خلفها) صابني رذاذ الغضب والشتائم ممن اعتقدوا في تغريدتي سخرية من الفنان. وحين أوضحت أنني لا أعرف شيئاً عن خلفية الموضوع، استغرب معظم المراسلين، «معقولة لا تعرفين ما يتم تداوله عن هذا الفنان؟» إذا كانت هذه معلومة مهمة في عالمنا العربي يجب أخذها بعين الاعتبار عند تحديد المواقف، فنحن شعوب تترجى المصائب التي تتوالى علينا، عقلية كهذه تستجلب مصائب كهذه.
أما الحدث الثاني، فيتلخص في توالي مجموعة من التعليقات على تغريدة تظهر تداعيات انفجار المرفأ على أحد الكنائس اللبنانية، لينقلب الحوار شتائمياً، وليدعو «مسلمو تويتر» بالويل والثبور على «النصارى» المستحقين للويلات، وكأن هذه الويلات اختارت فقط الكنيسة لتضربها. بالطبع، ليس هذا انعكاساً للفكر الإسلامي ولا لموقف الأغلبية المسلمة، ولكنه منتشر بما فيه الكفاية ليمثل ظاهرة، وليثبت عقلية خربة في عمق شوارعنا العربية والتي تتسبب في تهاون حكوماتنا تجاهنا، واستهانتهم بفهمنا وبردود أفعالنا، باعتمادهم دوماً على الجزرة، أي جزرة سخيفة تافهة، ليحولوا بها انتباهنا، مدخليننا في صراعات سفيهة فيما حيواتنا تتآكل بالفساد والخراب من حولنا.
موجع وفاجع ما حدث في بيروت، لكنه ليس مستغرباً، المستغرب هو كيف لم يحدث أكثر منه لنا جميعاً في أنحاء هذا الشرق الأوسط إذا كنا نعتقد أن نحس تغريدة يوقع مدننا ويفجرها، وأن غضب الرب يستهدف بيوته حسب الديانة والطائفة. بكل تأكيد، الحدثان على تفاهتهما يمثلان انعكاسات تشير بفضائيحة إلى جانب مهم من المشكلة. نعم هي ذنوب الحكومات لا الشعوب، ولكن من أين أتت هذه الحكومات؟ ومن الذي يراقبها ويحاسبها؟ إذا كانت العقول التي تراقب تتطير وتتشاءم وتدخل تطيرها في معادلة تقييم الحدث، وإذا كانت هذه العقول تحيد الرب مع هذا الفريق أو ذاك، فيا فرحة الحكومات ويا لفداحة وترويع القادم!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars.#TUN.:

    أنت لا بأس توة يا دكتورة ابتهال؟

  2. يقول علي:

    1-يبدو أن الكاتبة تحسنت صحيا، وأن اشتباه الكورونا ابتعد عنها، وهذا شيء طيب نحمد الله عليه، ونساله سبحانه أن يشفي المصابين جميعا، ويرحم الشهداء الذين ماتوا به، والذين سقطوا نتيجة انفجار مرفأ بيروت. للأسف مثلي لا يعرف شيئا عن التغريدات والبوستات، وإن كان بعض المحبين كما أخبروني قد فتحوا لي صفحة ينشرون بها بعض ما يتعلق بي من كتابات ومؤلفات لا أستطيع الدخول إليها.
    التطير تفاؤلا وتشاؤما حالة مرتبطة بالجهل، وسطحية الإيمان. “قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”، والمؤمن المسلم يعلم أن الإسلام لا يعترف بالطيرة، وإن كان يحبذ التبشير ويمنع التنفير، الفرق كبير بين التطير والتنفير. وقد شجع الاستعمار الغربي ووكلاؤه مذ حكمونا الجهل والخرافة والدروشة، وكان اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر يهتم اهتماما غير عادي بالسؤال عن عدد زوار مولد السيد البدوي والموالد الأخرى الشهيرة، فإذا كانت الأعداد غفيرة شعر بالارتياح، وإن كانت قليلة شعر بالانزعاج، لأن الموالد مصنع الجهل والخرافة والدروشة، مما يعني أن القوم لن يفكروا في مصائرهم والعمل من أجل تغييرها.

  3. يقول علي:

    2-لا اعرف الفنان الذي أثار شؤم بعضهم، ولا ما قاله، ولكنهم محتاجون إلى من يعذرهم ويضع الفأس في رقبة من قصّروا في حقهم وزرعوا في أمخاخهم الجهل والخرافة والدروشة، وأضافوا إليها العنصرية والشعوبية والقبلية ليبقى الوكلاء على عروشهم المتهاوية،
    الشاشات التي تستضيف المنجمين والمنجمات، والصحف التي تجعل بابا ثابتا للحظ والبخت، تؤصل للخرافة والتفاؤل والتشاؤم الزائفين، والمسلسلات والأفلام التي تقدم شخصية عبده النحس وفتحية النحس وغير ذلك من أنشطة زرع الطيرة، تصب في اتجاه تفريغ العقل العربي المسلم، وتحويله إلى مستودع للبؤس الفكري، والجهل المقدس ، وكل ذلك يتحمل مسئوليته أنظمة القمع والقتل والاستعباد والاستبداد. ومن ثم ينجحون في الجوائح، ويهربون بجلودهم ، بعد أن يسرقوا العقل والمال والإرادة والأمل. لصوص بيروت لا يقلون خسة ووحشية عن لصوص العواصم العربية الأخرى.

  4. يقول علي:

    3-من أطرف ما رأيت على الشاشات، الإرهابي الصليبي ماكرون يحضر إلى بيروت مرتديا ربطة عنق سوداء، ويتحدث عن ميثاق جديد وينظم قوافل المساعدات، وكأن بيروت مازالت تحت حكم بطرس الحافي، ( لم يحاول وكيل عربي واحد أن يزور بيروت قبل ماكرون أو بعده!) في الوقت الذي كان فيه رئيس لبنان، يرتدي ربطة عنق ملونة، ويحضر إلى المرفأ أو لم يزر المرفأ إلا بعد زيارة ماكرون الذي انتظره هناك وظهر كل منهما بلون مختلف لرباط العنق!
    ستظل شعوبنا في بوتقة الجهل والخرافة والدروشة طالما يتحكم الوكلاء في أقدارها، ويسلبونها حريتها وكرامتها وثروتها، ويحاربون دينها وثقافتها ويخدمون عدوهم الصهيوني خدمة العبد لسيده!

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى مسيو علي
      ستظل شعوبنا في بوتقة الجهل والخرافة والدروشة طالما يتحكم الوكلاء في أقدارها،
      وهل تنتظر من الحكام والوكلاء والصهاينة والغرب. ان يقودوا العرب نحو الخلاص
      لماذا الشعوب العربية لا تستطيع الانتفاض

    2. يقول علي:

      شعوبنا ضحت وانتفضت ولكن خدام الغرب واليهود يملكون السلاح والفجور والكذب، ولهذا تنهزم شعوبنا!

    3. يقول سنتيك اليونان:

      المسيو علي
      سود افريقيا انتصروا على حكامهم كذالك الكوبيون والفيتناميون انتصروا على امريكا
      هل الشعوب العربية عاجزة بسبب تكوينها او بسبب ثقافتها ومعتقداتها

    4. يقول علي:

      شعوبنا منهزمة بسبب الوحشية المحلية المدعومة من الوحشية
      الخارجية، لوجربت أن تعيش في جمهوريات وممالك الرعب،
      ورأيت كيف يعدونك عدوا اكثر خطورة من العدو الحقيقي للأمة،
      لعرفت أن طبقة العبيد التي تحكمنا ، وصنعها الغرب المتوحش
      على عينيه يصعب مواجهتها بعد الانكسارات المريعة التي أعقبت الربيع العربي
      وثوراته التاريخية. شعوبنا لا تقل عن الآخرين مقاومة، ولكن ميزان القوى الآن لصالح الخونة!

  5. يقول فؤاد مهاني المغرب:

    الحمد لله على السلامة الدكتورة ابتهال وأرجو أن تكوني بصحة جيدة بعد المرض الذي ألم بك في الأسبوع الفارط.
    الكارثة التي وقعت ببيروت هي مؤلمة وقاسية ولها تداعيات خطيرة على البلد يتحمل مسؤوليتها ساسة لبنان الذين انشغلوا في المناكفات السياسية لم يتعضوا بحرب أهلية طاحنة. لم يستطيعوا رغم مساحة لبنان الصغيرة وشعبه القليل في حل مشاكله من بطالة وتهميش وفساد وانعدام بنية تحتية التي هي متجاوزة عند كثير من الدول النامية.
    هل هي مؤامرة دولية مقصودة يراد بها للبنان أن يبقى ضعيفا. أين هي السعودية أين هي فرنسا وإيران وذنبها نصر الله الذي يتحفنا بخطاباته النارية كلهم غابوا ولم يظهروا إلا بعد الكارثة بمساعدات لا تسمن ولا تغني من جوع.

  6. يقول الكروي داود النرويج:

    قال لي بعض الإخوة السوريين بأن نظام بشار كان يستخدم هذة المادة التي إنفجرت بميناء بيروت في صناعة البراميل!
    وشاهدت فيديو لشخص من داخل ميناء بيروت قبل الإنفجار يقول بأنه كانت هناك طائرتان صهيونيتان بالسماء!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  7. يقول الكروي داود النرويج:

    الله سبحانه وتعالى يبتلي الجميع ليكشف للناس معدنهم الحقيقي!
    أشد إبتلاء من الله هو للمؤمن حتى يرى صبره واحتسابه (حسبي الله ونعم الوكيل)
    وهل ما يحصل للمؤمنين من ظلم الطغاة إلا إبتلاء؟ اللهم ثبتنا على دينك, ولا حول ولا قوة الا بالله

  8. يقول غسان ابراهيم:

    كنت انتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر
    لأقرأ هذه المقالة مهما كان الموضوع ..
    وأقول الحمد الله على السلامة للكاتبة المتميّزة .

  9. يقول بسام الاحمد:

    اختيالعزيزه
    عندما دافعنا عن الكويت وعن سقفها الحر كان لدي القليل من الشجاعه التى تملكينها ولكن بلقليل من الايمان والكثير من الدقر استطعت ان اتغلب على التحديات
    عندما دفعنا عن الكويت ورحابه حريتها
    واخيرا ابارك لك هذا الارث من الشجاعه

  10. يقول إبن كسيلة:

    أتسائل في كل يوم جمعة بعد التمتع بحكمتك …..كيف منعت بنفسك من ….” العقلية الطاغية في شرق أوسطكم ” …؟

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية