جزمة مطاطية…

حجم الخط
13

أحاول تذكّر فيضانات وأوحال الشتاء في أيام طفولتي المبكّرة، أتذكر الساحة في مركز القرية، تلك الحجارة الملساء التي مشيت عليها أولى خطواتي خارج البيت، تنزلق الأقدام عليها بعد المطر الأول، أتذكر مشاهد أناس منزلقين، كان عادياً أن يُقرَّ أحدهم بلهجة حيادية «تزحلقت»، أو «شطحت»، عندما يرى أحدهم الوحل على ملابسك من الخلف وعلى كوعيك يتساءل وهو مبتسم:
-شكلك شَطحت؟
-آه، شطَحْت.
تتحول الأماكن المنخفضة إلى مجمّعات للمياه والطين، أما الأماكن المرتفعة فتصبح أكثر بُعداً وشبه معزولة.
تنتشر روائح الحطب والجفت والأزبال الحيوانية المشتعلة، ويتصاعد الدخان متلوّياً من مداخن البيوت والخشاش الطينية والطوابين من كل ناحية.
لم تكن شوارع معبّدة، كانت بعض الطرق مرصوفة بحجارة صغيرة برز بعضها برؤوس حادة، توصل إلى الشارع الرئيس المحاذي الموصل بين عكا وصفد، كانت فيه حفر كثيرة تمتلئ بالمياه، رغم أنه مُعبّد في بعض أجزائه منذ أيام الانتداب البريطاني.
كانت النعال الأفضل في فصل الشتاء هي جزمات مطاطية سوداء اللون، مكسوة في داخلها بطبقة رقيقة من القطن، بعضها قصير العنق، والآخر يصل حتى الرُكبة، يغطي أكثر من ثلث قامة الرجل، وقد يقترب من نصف قامة رجل قصير، كان ينتعلها الكبار والأطفال، وحتى بعض النسوة ممن بيوتهن في الأماكن المنخفضة، وإن كان هذا المشهد لا يضيف إلى الأنوثة فمن يهتم إلى المظاهر خلال فيضان الطبيعة وتحدّياتها، فللضرورة أحكام، والضرورات تزداد اطّراداً مع حالة الفقر التي كانت سائدة عموماً، جزمات مصبوبة في قالب واحد بدون فواصل تتيح للناس الخوض في المياه وعبور القنوات والحفر والأودية الموسمية، إلا أنها وبعد استعمالها لفترة وجيزة تصبح لها رائحة غير لطيفة، وتصبح منفّرة يوماً بعد يوم، وغالباً ما تتشقق، فتمتلئ بالمياه، نقطة ضعفها كانت من الخلف، من فوق الكعب بالضبط، ولا أذكر واحدة منها اجتازت الموسم بدون انشقاق، ولم يكن ترقيعها ممكناً.
أول ما يفعله ناعلها بعد عودته إلى البيت هو خلعها وقلبها لإفراغ الماء المتسرّب فيها، ثم غسل قدميه من المزراب الذي يصبُّ من السطح، أو من نصف البرميل الذي امتلأ في صحن المنزل، وإذا كان مرتدياً جورباً خلعه وعصره، ثم يقترب من النار فاكهة الشتاء ليلقي بقدميه المبلولتين فوق الموقد أو تحته وحوله لينشّفها، وكثيراً ما يقرّب الجزمة المطاطية من النار، وهي مقلوبة لتجفيفها، فتنبعث رائحة لم تكن تثير اشمئزاز أحد، كانت هذه الرائحة أمراً منتشراً ومفروغاً منه، مثلما أن للربيع روائحه وأريجه، هكذا كان للشتاء رائحته من أزبال وحطب وجفت محترق، وجزمات مطاطية تسربت المياه إلى جوفها ويطمح صاحبها إلى تجفيفها.
أطلق العرب على الغيوم أسماءً كثيرة، منها الديمة، والمزنة، والسحابة، والسارية، والصرفة، والسمحاق، والغمامة، والدجينة، والرهج، وغيرها، تقترب الثقال منها آتية من جهة البحر، تتجه شرقاً إلى سفوح الجبال فتحجب قمم الأشجار والصخور وثغور المغاور، ثم تنهمر سيولاً، تنحدر إلى الأماكن المنخفضة من كل صوب عبر الطرقات والقنوات، ثم إلى الوادي الذي سرعان ما يمتلئ، ثم يضيق عن استيعابها فتفيض وتتسع، ويتحوّل السهل إلى بحيرة كبيرة، وهذا سر خصوبة أرض قريتنا، هذا سنراه لاحقاً في الربيع والصيف على أغصان التين بثمارها الباسمة، والبامية التي كانت تنافس عباد الشمس في ارتفاعها، وفي القثائيات من كوسا وقرع وبطيخ وشمام وفقوس وغيرها. يتهاوى الغيم ويمر الشتاء مخلّفاً وراءه مستنقعات تتكاثر وتعيش فيها الضفادع التي سنرى جحافلها مع مطلع دفء الربيع، ونتابع تحوّلها إلى برمائيات من الماء إلى اليابسة ومن اليابسة إلى الماء، وليس نادراً أن تظهر فيها صغار الأفاعي، ثم البعوض، كان بعضنا يتحدى الآخر بعبور هذه المستنقعات حفاةً مسلحين بشجاعة الجهل، أو بتلك الجزمات المطاطية.
في هذه الأيام، تعجّ شبكات التواصل الاجتماعي بالتعبير عن المشاعر التي يثيرها المطر في النفوس، ينقل الكثيرون صورهم الذاتية حول مدافئهم، بعضها مع نبيذ وكستناء وقطط، وبعضها تحت المظلات في شوارع بلادهم وأزقتها، أو أمكنة سياحية يزورونها، يعبّر الناس عن فرحهم واستبشارهم بالمطر، وتتصدر برامج الإذاعات العربية الصباحية أغنية فيروز، «شتي يا دنيي تيزيد موسمنا ويحلا»، ثم يفرحون بالثلج الأول، ويبدأ الراصد الجوي في فلسطين برصد مستوى بحيرة طبريا، كم ارتفع سطحها هذه الشتوة، وكم تحتاج حتى تمتلئ، وكم وصلها من الأنهار والأودية مثل الحاصباني، والوزاني، ودان، وكم صار ارتفاع الثلج على جبل الشيخ، وبماذا يعدنا الجولان؟ ويتذكر بعض العرب أبا الطيب المتنبي «وردٌ إذا ورد البحيرة شارباً… ورد الفرات زئيره والنيلا»، ننظر إلى السماء، وندعو الله بأن يزيد ويبارك، فنحن في دفء بيوتنا، وحول مواقد الخشب أو الكهرباء أو المكيّفة بالهواء الدافئ.
أحب الشتاء والعواصف، ولكنني أشعر في هذه الأيام بضيق عندما أرى الغيوم متلبدة، ويرتبك لساني فلا أدعو لمطر غزير، أشعر بالذنب لو قلت «شتّي يا دنيا وزيدي بيتنا حديدي»، وأنا جالس قبالة موقد مملوء بالحطب المشتعل وأولادي وأحفادي من حولي، وقطتان غريبتان تتثاءبان وهما مقعيتان قريباً من المدخل طلباً للدفء، بينما هناك أطفال يرتجفون برداً، ورجال ونساء تحاصرهم مياه الأمطار والوحول، وهم قلقون على مصائرهم ومصير أبنائهم.
أشعر بالذنب عندما أنتعل حذاءً جافاً فارها، فأنا أعرف أن هناك من تغمر المياه طرقهم وخيامهم وأقدامهم، أعرف أن أحذيتهم امتلأت بالمياه الباردة.
أشعر بضيق عندما أرى لمعان البرق وأسمع هزيم الرعد، وتستفزني زخّات المطر القوية، صحيح أنه خير هنا، ولكنه شر هناك، إنه رومانسي ومثير وأنت خلف زجاج النافذة أو السيارة، ولكنه كارثة هناك، إنه خير للزرع وللحيوان والإنسان، ولكنه مأساة لأمّة اللاجئين.
أكره الغيوم والمطر، أكره الريح والثلج والعاصفة، هذا العالم لا يستحق مطراً ولا خيراً، هذا العالم الذي يحكمه الأوغاد بشع وحقير. لا يستحق قادة هذا العالم الفاقدون للحياء سوى جزمات مطاطية مشققة على شفاههم المنافقة الأفاكة وعلى وجوههم البلاستيكية الكالحة وعلى رؤوسهم المنتجة والحاملة والناقلة لأفكارهم الإجرامية الخسيسة المنحطة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة لك أستاذ(سهيل) وللجميع دون نسيان أسرة القدس العربي
    أمّا بعد..
    برائعتك هذه قد عدت بي حوالي 50 عاما إلى الوراء أي من ستينيات القرن الماضي الذي عشنا فيه ما قد عايشته ولبسنا فه ما قد لبسته من أحذية مطاطية ومن جمال وصفك لجزئياته أنّه فعلا يتشقّق من الخلف حيث لا علاج له إمّا رميه أو مكابدة العناء بالصبر عليه حتى إنقضاء الشتاء.. وعند حلول الربيع يكون حذاء من نوع آخر…والذي فطر قلبي وصفك لمعاناة الآخرين المنسيين الذين ركلتهم السياسة الرعناء إلى ركن منسي وإبتلعتهم المصالح إلى زاوية مظلمة…كل ذلك يحدث في زمن يدّعي التقدم وهو للقيّم يذبح بسكين مكتوب عليه: ( أنا ومن بعدي الطوفان..)
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  2. يقول عابر سبيل:

    نعم استاذنا العزيز، انه شعور متبادل ليس فقط بالشتا كان بالصيف وبكل مكان في راحه وهلعالم مأكله روح الزفت. للأسف صار عندي قناعه انا حاملين هاي الجينات معنا.

  3. يقول سوري:

    زعماء العرب الذين يكدسون اموال الشعوب العربية في البنوك الاجنبية ويقتلون شعوبهم لا يستحقون حتى جزمة
    اتمنى ان يسكنوا الخيام المتهالكة تحت المطر والصقيع حتى يشعروا بالجرائم التي يرتكبونها بحق شعوبهم

  4. يقول رؤوف بدران-فلسطين:

    ابدعت كعادتك اخي سهيل , وفتحت ابواب الجراح على مصراعيها من جديد!!!
    كيف لقلبٍ يا اخي سهيل حتى وان كان صاحبه يجتمع في بيت واسع, نوافذه محكمة الاغلاق ووسائل التدفئة فيه عالية الحرارة, وكؤوس شرابه من الاينر, ان يتلذذ بما هو فيه, واخوةً له في زقاقات التهجير, لا ينتعل اهلها الا جزمات الفقر والمعاناة والصبر عليهما, ولا يأكلون الا ما يجدونه في قصعاتهم من القهر والالم وظلم الانسان ؟!!
    كانت في الماضي تتشقق جزماتنا ؟ اما اليوم فتتفتت قلوبنا من شدة اللوعة وحرقة الاحزان الف مرة في كل لحظة !!
    قلبي معكم يا مهجرين!! قلبي معكم يا لاجئين, قلبي معكم يا اخوتي المبعدين المستضعفين, ستبقون وستداوموا ملازمة شوقي والحنين والسلام.
    مع خالص مودتي لاخي وصديقي بلنوار قويدر ولباقي القراء.

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    تذكرت اللاجئين السوريين الموجودين بالقرب من الحدود التركية! أغلبهم لا يملك جزمات مطاطية أو حطب للتدفئة!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  6. يقول الكروي داود النرويج:

    اللاجئين السوريين على حدود بلادهم يسكنون بالخيام! أغلبهم محروم من الرعاية الطبية والأدوية والأغذية والأغطية!! لهم الله ولا حول ولا قوة الا بالله

  7. يقول كمال - نيويورك:

    كاتبنا العزيز، شعورك بآلام الآخرين إنما يدل على نبلك وانتمائك لهذه الأمة المفجوعة التي بليت بحكام ظالمين. أوافقك الرأي ان طفح الكيل و لا حول و لا قوة الا بالله

  8. يقول ختام قيس:

    صباح الخير استاذ
    لقد نجحت في احياء الاحداث في نفوسنا ،نجحت في دفع الماضي ليصب في ذاكره الحاضر،نجحت في عزلنا عن الكلمات وغمرنا في ماء المزراب .
    احببت تلك النافذه القصيره التي فتحتها لنتجول في صور “طفوله الشتاء الجميله “بانتقاء اروع اللحظات ،حيث استطعت ان تنزع المعاناه التي كانت لاحقا بصور جميله قد نحياها ونحن نقرأ..
    جمال السرد عن الماضي يفصلك عن الذكرى المؤلمه..
    لكن مع نهايه مقالتلك اقحمت الحاضر الغاشم الذي يحول الموقد الى نار تحرق ولمطر الى برد قارص والى البركه كعذاب لمن هم خارج دائره الحمايه،أجل لا بد ان لا ننسى تلك الصور فهي موجوعه لدرجه اننا ان نحذفها من ذاكرتنا..
    يسعد صباحك
    شتاء دافىء للجميع.

  9. يقول سمر:

    يسعد صباحك أستاذي الكريم، أنت أحييت ذكريات الطفولة الشتوية، وجسّدت المواقف بتفاصيلها المُضحكة والمؤلمة، ولا يسعني إلا أتذكر إخواننا السوريين عالحدود التركية، اللذين لا يملكون الأجزمة المطاطية..
    مبدع بانتقاء الكلمات..

  10. يقول رسيله:

    مقاله قصصيه نقديه ساحره يحكمها الأسلوب السهل والاستطراد عالجت من خلالها كاتبنا قضية مهمة هي قضية لاجئين بلا وطن حيث برز رايك الخاص وانطباعك الذاتي بشكل واضح عبر الطرح .
    هذا واتخذ النقد في مقالتك المنحى البناء الذي يهدف للتمييز بين الجيد من الرديء والحسن من القبيح عبر تبيان الأخطاء والمحاولة في تقويمها.
    فتشكلت لدينا قطعة نثرية تحمل بين جنباتها المديح والذم بأساليب مختلفة الغاية منها تحديد مكمن الخطأ والمحاولة في تصحيحة بهدف التوجيه والإصلاح التربوي المحض.( يتبع)

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية