في القاعة التي خُصّصت لعرض الرسوم على الورق، الورق الأصفر في الغالب، والمسطَّر المنتزع من الدفاتر، بدا ما هو معروض كما لو أنه نتاج عمل اشترك في إنجازه كثيرون. أوحت بذلك الطريقة التي عُرضت بها مجموعات الرسوم، متوزّعة بالتساوي على كل صفّ من الصفوف، ومتكرّرة بالتماثل ذاته. أحد المهتمين باستقبال الزائرين قال إنها 120 رسما، مضيفا أن هذا العدد جرى الاكتفاء به هنا، وأن عدد الرسوم الذي أنجز هو 400 رسم. أما في إحدى مقدمات الكتاب الذي طبع في قطر، بالترافق مع المعرض الذي كان أقيم هناك، فقد كتب أن العدد إلى ازدياد لأن ما تقوم به الفنانة منيرة الصلح مستمر من دون توقف. ومثلما في كل عمل متصل بدأت الفنانة مشروعها ذاك بالالتقاء بالأشخاص فرادى لتحاورهم وترسمهم. بعد ذلك صارت تلتقيهم جماعات في أمكنة التقائهم، المقاهي على سبيل المثال، أو مراكز التجمع التي أعدت لهم في بلدان لجوئهم الكثيرة التي قصدتها من أجل ذلك. في الكتاب المذكور عنه أعلاه ليس من إشارة إلى كون أولئك الأشخاص قد اختيروا من بين آخرين، كما لا ذكر بالطبع إلى معايير تشير إلى أي تميز فيهم، جعلهم أقرب إلى عملها من سواهم، ذاك أن المتنقل بين الصفوف في تلك الصالة من صالات المعرض، ناظرا إلى الوجه الذي يحتل القسم الأعظم من كل صفحة، أو الجزء من الوجه أحيانا، أو الوجهين في بعض الرسوم، يرى إلى أي حد يمكن أن تختلف الهيئات وتتعدد. ولا ريب في أن الفنانة، فيما هي ترسم كل وجه، كانت تبحث عن ذلك الاختلاف فيه، أي عما تختصّ به فرديته.
وسيُدَلّ على ذلك بالكلام الذي خُطّ، بالقلم الرصاص غالبا، على جنبات كل من الصفحات، نازلا من الأعلى إلى الأسفل أو متفرقا في نواحي المساحات البيضاء المتبقية. في بعض الصفحات جرى الاكتفاء بأقل الكلام المكتوب، كلمة أو كلمتين، وفي أحيان يظهر الوجه وحده مكتفيا بما تقوله ملامحه.
الكلام المرفق إذن، المكتوب بخطّ متعجّل أو بدربة على الكتابة قليلة مكمّل للتعريف، حيث لا يكون الوجه كافيا لوحده على نقل رسالته أو سيرته، ولن نقرأ أبدا تلك الجمل المألوفة الشائعة التي تختصر حياة الأشخاص وتجعلهم عموميين، على غرار ما يتحصّل من التعريف النمطي في الأجوبة عن البنود التي تحتويها الاستمارات البحثية أو الرسمية. أما هنا، في «شغل» منيرة الصلح، فيمكن للكلام أن يأتي من أي جهة، مقتطَعا من أي حديث عادي أو من أيّ تذمّر، أو من وقائع في تاريخ شخصي وعائلي، أو من رغبة لم تتحقق، أو من طموح منكسر، أو من تذكّر لفاصل من الماضي، أو من تأمل في انقلاب الحال بعد حصول الهجرة، أو عما جرى في رحلة الانتقال إليها إلخ. قد يشي الكلام المكتوب بالخيبة لرجل يرى أنه ورث مهنة يحبها لكن تهجّره من بلده اضطره إلى أن يعمل في مهنة سواها. أو يبدأ آخر بالقول إنه فنان يغني موسيقى الراب بالعربية والكردية، وأن طوله 183 سنتمترا (هكذا من دون داع لذكر ذلك) ويتمنى أن يصبح عارض أزياء، أما حاليا «بينما تستقر أمور حياتي المهنية، اعتمادا على وضعي كلاجئ، أعمل بشكل مؤقت في مطعم كباب سوري (في بلد الهجرة أو اللجوء)».
وهناك ثالث زعم للمسؤولين في السفارة، من أجل الحصول على تأشيرة شنغن، أنه يريد أن يهدي ابنته، في عيد ميلادها، زيارة إلى ديزني لاند. وإذ حطت الطائرة في فرنسا ركب مع ابنته من هناك طائرة أخرى متجهة إلى ألمانيا. الأرجح أن الفنانة التقته هناك، في ذلك البلد. آخرون التقتهم في إسطنبول، أو في مراكش، أو أمستردام، أو أوسلو أو شيكاغو، إضافة إلى لبنان الذي كان المحطة الأولى في طريق لجوء بعضهم، تلك التي يعدد أكثرهم محطاتها طالما أن انتقالهم لم يحدث في قفزة واحدة، أو في سفرة واحدة بالطائرة «من دون توقف».
تلك الشهادات، جنبا إلى جنب مع البورتريهات الخاصة بقائليها هي «وثائق زمنية» للاجئين من سوريا كما تقول الصلح، وثائق فردية عن الزمن العام الذي من قبيله الكلام العام الذي يقال فيه مثلا إن هجرة السوريين هي الأكبر في عصرنا. كلام مثل هذا يحمل من البلاغة أكثر مما يحمل من الحقيقة. الحقيقة التي تحتاج إلى أن تظل تُروى، مرة بعد مرة، حالة بعد حالة، وألا تنغلق على ذلك التعبير الجامع المانع الذي يجهد في طيّ ما هو حيّ وتفصيلي في تلك التجارب. إلى أي نوع من التخيل تدفعنا عبارة من نوع إن انفصال باكستان عن الهند أدى إلى أكبر اقتلاع سكاني في التاريخ. هذه جملة لكتب التاريخ تشترك مع ما يشابهها في حجز التــذكّر في قوالب مقفلة وتعطيل المخيّلة.
السطور أعلاه تعليق على ما عُرض في قاعة من قاعات معرض منيرة الصلح «أم داوود وجولياث» الذي سيستمر في صالة صفير زملر (بيروت) حتى العاشر من أغسطس/ آب 2019. في القاعات الأخرى شاهدنا لوحات للفنانة كانت نتيجة لتأليف تخيّلي لحوادث وحكايات اتصلت بعملها عن البورتريهات وروايات أصحابها. في قاعة أخرى عرضت تطريزات على قماش لمختارات من صفحات البورتريه، وفي قاعة رابعة شاهدنا فيديو لفواصل متنقلة من عيش عائلي.
٭ روائي لبناني