جلبير ديران ومتخيله الرمزي

حجم الخط
0

غالبا ما كان المفكرون الفرنسيون يتبعون تقاليد المساءلة والانتقاد أمام الخصوم في الجمعية العامة التابعة للجامعات الفرنسية. وغالبا ما كانوا يدافعون ببسالة واستماتة، عن نظرياتهم وآرائهم. إن مثل هذه اللقاءات تضيء جوانب من المعرفة العلمية الخاصة، التي جاء بها المفكر أو الفيلسوف، لذا فحضوره أمام المتربصين به، الذين غالبا ما يريدون إفشال مشروعه العلمي، أصبح ديدنا بهدف المكاشفة وقرع الحجة بالحجة.
إن الفلسفة الإغريقية ثمرة إنسانية لهذا الوجود، مرت بمرحلتين اثنتين، انتقلت بموجبها من الميتوس إلى اللوغوس. فمهما بحثنا عن الأسباب الكامنة وراء هذه الطفرة، سنجد أن البحث عن الحقيقة كان الهدف، الذي يذهب من أجله كل الأنشطة الإنسانية عبر التاريخ. ففيلسوف الإغريق أفلاطون كان من رعيل الفلاسفة، الذين انتصروا إلى الرمز في الأدب، بما هو ـ أي الأدب ـ وجه من وجوه الفلسفة. فضلا عن الأساطير، التي ألفها أفلاطون، «أتلونتيد» و»العمر الذهبي» سنجد أن الرمز احتل فيها مساحة كبرى، خصوصا عند الحديث عن الروح وعودتها إلى الجسد في ملحمة هوميروس وحروب طروادة. فالمنعطف الخطير، الذي ملأ الدنيا وشغل بال الفلاسفة، هو ما أقدم عليه أرسطو في الفلسفة اليونانية، عندما قرر إعدام الرمز والمخيال، واجتثاثه من الأنشطة الإنسانية على الإطلاق، معتبرا أن العبور نحو الحقيقة لا يتم إلا عبر مصفاة العقل، والعقل وحده؛ وبذلك أسس منطقا جديدا في الفكر والفلسفة والأدب.
إن الخيال والمتخيل، في نظر أرسطو، هو منبع ثر للخطأ واللَّحَن، ما شل العلوم، التي تهتم بالإنسان، ففي سبيل ذلك، امتدت الفلسفة العقلانية بين الشرق والغرب؛ من ابن رشد والفارابي إلى حدود سبينوزا وجان جاك رسو ورينه ديكارت وجون بول سارتر، وأخيرا جون بودريار. غير أن هذه الساعة الرملية توقفت عن التدفق السريع عند عالم الاجتماع والأنثروبولوجي الفرنسي جلبير ديران، حيث إنه دافع، أمام الجمعية الفرنسية، التي انعقدت في جامعة غرنوبل جنوب فرنسا، عن الاستعارة التخييل اللذين يخيطان التواصل الإنساني. فبين «البنى الأنثروبولوجية للمتخيل» 1960 و»الخيال الرمزي» 1964، انتصر ديران وبقوة، للنصف الثاني المكون للإنسان، ألا وهو: المتخيل والخيال والرمز. بالموازاة مع ذلك، فقد أكد في الجمعية العامة الفرنسية أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش دون هذا الحوض الدلالي، الذي يستقي منه أفكاره وإبداعاته ومواقفه وتوجهاته.

كان جلبير ينظر إلى شومبيري، مسقط رأسه، بمثابة الدافعة الروحية، التي يستمد منها القوة والعزيمة أمام خصومه، فأول ما فكر فيه هو تأسيس نواة جامعية تابعة لجامعة غرنوبل؛ لتستأنف مسيرة البحث في المتخيل.

علاوة على أن الصورة التي تسكن الكائن الحي تعد رمزا من رموز تطوره وإبدالاته، تساهم في خلخلة الثابت وتثبت المتحول. فكتابه «البنى الأنثروبولوجية للمتخيل «سفر، دون حدود، نحو ضفاف أثيلة يتشكل فيها عالم المتخيل الإنساني، من الصور المنضودة في أماكنَ غامضةٍ ومبهمةٍ وغير مستساغة من دماغ الإنسان. فكما يقول يونغ عن الصورة: كل فكرة لها صورة في الذهن. وعلى هذا الأساس فالإنسان لا يستطيع العيش خارج الرمز. فجلبير ديران انفتح على علوم كثيرة؛ لأن المتخيل يخترق أفقيا كل العلوم الإنسانية؛ بدءا بعلم التاريخ وانتهاءً بعلم الإناسة، وبذلك فالجمعية العامة، التابعة لغرونوبل، كانت تعتبر ديران بمثابة مقبض الباب، الذي يُفتح على مختلف العلوم. والأدهى من ذلك أنه كان يجالس أتباع يونغ وأتباع فرويد وميرسيا إلياد، لكنه لم يتأثر بأية أيديولوجية من الأيديولوجيات المعروضة أمامه.
فمن الطبيعي أن يكون لجلبير ديران أعداءٌ يناهضون مشروعه الفكري، حيث يرى فيه المؤرخ جاك لوغوف صاحب كتاب «المتخيل في القرون الوسطى» محورا غنيا للتدليل على سقوط العديد من الحواضر في الشرق والغرب، جراء الحروب واضطهاد الشعوب، والنزوح الجماعي، ما تسبب في ظهور أمراض وأوبئة. بالموازاة مع ذلك، فلوغوف يرى أن التاريخ لا حاجة له بالشعور والأحاسيس؛ لأنه يتحدد ـ أي التاريخ ـ من خلال عناصر مادية وحسية، لذلك كان الصدام قويا بين لوغوف وديران، حيث إن الأول يعتبر عوالم المتخيل مبنية على العلم، بينما الثاني يرى أن المتخيل ينفلت من عقال وأصفاد العقل والمنطق، ليتوج عبر الحلم والرؤيا والهذيان. فمزية الحوار بين علماء النفس والأنثروبولوجية والسوسيولوجية والأدب أن يجدوا إطارا موحدا لمعالجة المتخيل في ظل فروعه المتشعبة، إلا أن ديران فضل أن يتبع خطى أستاذه المفكر غاستون باشلار، وحصر المتخيل الإبداعي في العناصر الأربعة: التراب والماء والهواء والنار.
كان جلبير ينظر إلى شومبيري، مسقط رأسه، بمثابة الدافعة الروحية، التي يستمد منها القوة والعزيمة أمام خصومه، فأول ما فكر فيه هو تأسيس نواة جامعية تابعة لجامعة غرنوبل؛ لتستأنف مسيرة البحث في المتخيل. فكان من بين الأساتذة، الذين يلتحقون بهذه الملحقة لإلقاء محاضراتهم نجد المفكر والفيلسوف جون بيير سورينو المؤسس الحقيقي لأصدقاء جلبير ديران، وكذا مجموعة من الأساتذة الذين يدرسون في غرنوبل.
وفي هذا، التجأ جلبير إلى الغنوصية الضاربة في تاريخ الديانات القديمة، مسلحا بالنظريات الأفلاطونية، كما أخذها، وتعلمها عن أستاذه غاستون باشلار. في تجربة ديران، خلق ذلك الحوار المفقود بين التخصصات المعرفية كافة، التي تمتح منها العلوم الإنسانية. وعبر اشتغاله على المتخيل الرمزي، فسر العديد من الظواهر السياسية التي كان يلفها الغموض والإبهام. إن الإنسان كائن رمزي يتحرك، في حوضه الدلالي، عبر شبكة معقدة من الرموز. فعند الحديث عن البرازيل، مثلا، يذهب متخيلنا مباشرة إلى أنها دولة كرة القدم والبن؛ لأنه ترسخ في أذهاننا، وعبر عشرات السنين، حجم الانتصارات والظفر بكأس أمم العالم، علاوة على الوصلات الإشهارية في المجلات والصحف، التي تشهر زهرة البن البرازيلي والأربيكا ومذاقها الذي لا يقاوم. غير أن ما فعلته ألمانيا، في كأس العالم، بانتصارها الساحق على الفريق البرازيلي، كسرت به المتخيل العام، وبدأ بالتراجع والنكوص. فصناعة المتخيل، حسب ديران، قادرة على زعزعة العديد من الثوابت الراسخة في المجتمع، وهذا خروج وزيغ واضح عن الطريق، الذي رسمته العقلانية في الفكر الإنساني عبر تاريخها الطويل.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية