القاهرة ـ «القدس العربي»: ما بين الحكاية والصورة علاقة قديمة، ربما سبقت الصورة الحكاية، لكنها في وقت قصير أصبحت تلازمها وتعبّر عنها ولو في صيغة فنية أخرى. فما انتصارات الحروب وتسجيلها على جدران المعابد في مصر القديمة إلا مثال لارتباط الحكاية ـ تدوين الحدث ـ بالصورة. والأمثلة عديدة على امتداد الحضارات، فالفن الإغريقي بدوره ما هو إلا حكايات وتصاوير لصراعات ومغامرات آلهة الأولمب، وصولاً إلى الشخصيات الأسطورية والدينية، فأبطال الملاحم والسير الشعبية، وفي الأخير الشخصيات الروائية في الأعمال الأدبية. مع ملاحظة فكرة عدم النقل الحَرفي أو الترجمة البصرية للكلمة المكتوبة، لكن كحالة من حالات الاستلهام التي يعمل من خلالها الفنان التشكيلي المتأثر، الذي يحاول بدوره التأثير في المتلقي، من خلال (اللوحة).
هذه الأفكار وغيرها في مدى ارتباط كل من السرد المكتوب والبصري يناقشها كتاب «جماليات السرد بين النص والتشكيل» لعلي سعيد، الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، ضمن سلسلة (آفاق الفن التشكيلي).
الفنان والحكاية
يفترض المؤلف في مقدمة كتابه سؤالاً حاول الإجابة عليه عبر صفحاته، هو.. كيف تعامل التشكيلي مع السرد الروائي، أو القصصي، أو الحكاية الشعبية؟ وفي سبيل ذلك استعرض من خلال منهج تاريخي ـ يبدو أن الكتاب ملخص رسالة علمية كعادة أغلب إصدارات السلسلة مؤخراً ـ بدايات التدوين البصري، إن جاز التعبير، مروراً بعصور الحضارات القديمة كمصر واليونان، وكذا العصور الوسطى ولوحات الفن الكَنسي، ثم عصر النهضة والعصر الحديث. وسنقتصر على فصل أخير تناول فيه المؤلف مدى تأثر كل من محمود سعيد وعبد الهادي الجزار بالحكاية، وكيفية صياغتها وفق عالم ومفردات اللوحة التشكيلية.
النهضة الفكرية
يبدأ المؤلف بإرهاصات النهضة الفكرية في مصر، التي ارتُهِنت بثورة عرابي، وتبعات فشلها، ثم ثورة سعد زغلول، الذي حل محل البطل الشعبي أبو زيد الهلالي في الوعي والروح المصرية، وكانت أعمال محمود مختار، تجسيداً لهذه الثورة ورحلتها، ومن مختار جاءت فكرة ابتعاث الماضي وصحوة القومية المصرية ـ بخلاف ما آلت إليه رغم براءة الفكرة وقوتها ـ وصولاً إلى منتصف الأربعينيات، وهي مرحلة نهضة الفن التشكيلي المصري. يقسم المؤلف هنا الأمر إلى قسمين.. أولهما (السرد الوصفي) ويتمثل في مشاهد من حياة المصريين اليومية، سواء في الريف أو المدينة، والآخر (السرد الماورائي) والمتمثل في المعتقد الشعبي المصري وعاداته الضاربة في القِدم، بغض النظر عن لوحات المستشرقين، التي نجحت في تجسيد الظاهر منها، كعادة اندهاش العيون الغريبة.
محمود سعيد
ووفق المؤلف ينتمي محمود سعيد (1897 ــ 1964) إلى حالة (السرد الوصفي) نظراً لما يحمله من تاريخ ينتمي للأرستقراطية الحاكمة، ولعل لوحته الشهيرة (المدينة) هي خير مثال على ذلك. ورغم أنه تعلم على يد فناني الغرب، إلا أن أعماله جاءت في صبغة مصرية خالصة ـ ولا نستطيع أن نجاري المؤلف ونقول شعبية ـ فالمكان هنا يعد عنصراً جوهرياً في عمل سعيد، دون الاقتصار على كونه إطاراً ساكنا للعمل، بل هناك دراما لها أبطالها من الشخوص، وكذا صراع هؤلاء، سواء بينهم وبين أنفسهم، أو بينهم وبين حياتهم في هذا المكان. من ناحية أخرى نجد بورتريهات محمود سعيد، خاصة (النساء) وهن في أغلبهن يمثلن الطبقة الشعبية، بخلاف الأرستقراطيات في لوحاته الأخرى، فهناك حالة من الصخب والتحدي والصراع، حتى لو اتسمت نظرة إحداهن بالهدوء أو الاستقرار. ونرى أن محمود سعيد كان يبحث عن حالة التمرد هذه عند هؤلاء ـ كفكرة رومانتيكية ليس أكثر ـ وهي التي لم يجدها في محيط طبقته، أو حالة من التمرد، كان يود أن يعيشها هو نفسه، ولم يجد إللاهن كحالة يعيشها من خلالهن، رغم أن الموضوع بالنسبة إليهن «أكل عيش».
عبد الهادي الجزار
أما عبد الهادي الجزار (1925 ــ 1966) فينتمي لحالة (السرد الماورائي) فالجزار نشأ في بيئة شعبية، حيث الأضرحة والأولياء، سواء في حي بحري في الإسكندرية، أو السيدة زينب في القاهرة، مما كان له أكبر الأثر على رؤيته للأشياء والشخصيات، وبالتالي إعادة صياغتها في أعماله، وكما يقول المؤلف «فمظاهر الحياة الشعبية في لوحاته ليست مجرد تصوير تعبيري أو انطباعي، بل تحمل رؤية تعبّر عن فكر عميق وفلسفة خاصة». ومن هنا تأتي موضوعات لوحاته عن الجن، الزار، والسحر والشعوذة، ناهيك عن اهتمامه بالطبقات الفقيرة ـ شخوص هذا العالم ـ دون نظرة متعالية، أو غربية مندهشة في بلاهة. وتأتي لوحته (الجوع) أو (الكورس الشعبي) لتعبّر عن مأساة أغلبية المصريين، وهي اللوحة التي اعتقل بسببها، وفي أول معرض فني له! فرغم اختلاف الشخوص وأعمارهم، إلا أن هناك حكاية واحدة تجمعهم، هي الفقر والحياة المتردية، التي بالنسبة لها الموت أرحم. ليأتي السؤال الأجدى.. أي لوحة من لوحتي (سعيد) و(الجزار) ستكون أكثر تعبيراً عن حياة المصريين؟ وهل اختلفت الحياة وقت عبد الهادي الجزار عنها الآن؟