تطرح الفنون اليونانية العتيقة جملة من الأسئلة حول بنائيتها وعظمتها ودقة تصميمها وتفاصيلها التقنية اللامُتناهية. وهي عناصر كونية رائدة ظاهرة في المنحوتات وفي الجداريات على حد السواء، رغم أن أغلب الأعمال الصباغية اللونية اِندثرت في عصرنا. نظرا لتقادم الزمن ولتتالي الحضارات المتعاقبة، إضافة إلى مختلف العوامل المتداخلة، التي تشمل اِنهيار عدد من المعابد القديمة والمقامات الشعائرية والمنشآت الرسمية وامتداد دائرة الحملات الحربية البحرية خصوصا، ولتوسع نفوذ أثينا المدينة الدولة بضم جُزر كريت وقبرص وصقلية، والمجال الإيطالي ما قبل الروماني وأجزاء مهمة (أشرطة بحرية كبرى) غرب الأناضول على طول البحر المتوسط (تركيا) إضافة إلى التهديد الفارسي المتعاظم، الذي تزامن مع أوج الإمبراطورية الأخيمينية في القرن الخامس قبل الميلاد (الحروب الميدية). وهي عوامل تتطلب مضاعفة المجهود التخطيطي/ التنفيذي وتفعيل القرار الحربي الرسمي اليوناني، ورصد التقدير المالي للتحكم في المجال الواسع والمتنامي. ورغم الفترة الزمنية المتأخرة التي تعود بداياتها إلى العصور البرونزية (3500 ق.م) وما عرفته من ثراء وحيوية ثقافية عبر تعدد وتعاقب الحضارات (السيكلادية والمينيونية والميسانية) وصولا إلى فترات النضج الفكري والعلمي والسياسي، خاصة في أثينا وإسبرطة، انطلاقا من القرن السابع قبل الميلاد. إلا أن بوادر التقدم والسبق في الإنشاءات البنائية العملاقة للمعابد والمسارح، مثل معبد البَرتِنون الشهير ( le parthénon) ونُصب الآلهة مثل تمثال أثينا (آلهة العقل والحكمة) وتمثال أبولون (إله الموسيقى والجمال والنور) ومُنحوتات العطايا القربانية الشعائرية من الطين والعاج والخشب مثل أرتميس وليتو والدايدالا (منحوتة توازي آلهة الخصب هيرا أخت وزوجة ملك الآلهة زيوس). كل هذه الاِنجازات في علاقة وطيدة بالفن اليوناني، وتمثل جوهره الحيوي الذي عكس فيها الكثير من الوجدان والفكر العبقري لعشرات القرون المتتالية. كأعمال إنسانية خالدة، واضحة للعيان وموثقة في مختلف المراجع اليونانية والعربية والأوروبية. وهي إشارات وبراهين على السبق، ما جعلها تدرس إلى اليوم، خصوصا في مجالات الأنثروبولوجيا وتاريخ الفنون وأثريات المعرفة، وكلها ميادين لا تخلو من الإيحاءات والتأمل والمحاكاة والتعبير الصوتي والبصري، تطورت فيها المقاربات وتنوعت الأدوات التعبيرية.
مقاييس حضور»الميميسيس» le mimésis أو المحاكاة التقليدية في المخيلة الشعبية:
إن اِعتماد المُحاكاةِ وُلد تدريجيا كترجمة لانعكاس محطات روحانية ميثولوجية طاغية عاصرها الفرد عبر إرهاصات صعود ونزول، سواء في الشعائر الطقوسية اللاهوتية (الفقدان/ الولادة) أو في السياسة (الهزيمة/الاِنتصار) أو في الثقافة (الأوج/ الأُفول) أو في الفردانية (اللذة/الألم). وكلها عناصر تستلهم مباشرة من الأسطورة وتلتصق بالفكرة الجماعية وتقتبس من الحكائي المسرحي الشعبي (الإلياذة والأوديسة). تبعا لذلك نشأت أشكال تعبيرية جمالية مبنية على إنتاج أعمال جدارية لتزيين جدران المعابد على شاكلة سلسلة الرسومات المصغرة المتسلسلة أو الفريز (frise) وصور الآلهة ومشاهد محاكاة لنشاط الصيد، بواسطة إعداد خلاصات لونية مستخرجة من عناصر متعددة معدنية حيوانية ونباتية يتم رسمها، باعتماد عصي وأعمدة خشبية، سواء باعتماد بقايا عظام الحيوانات أو حتى باِستعمال أنياب فيل وفرس نهر افريقيا، وذلك لتقديم الآلهة في أحسن حلة، خاصة في مواسم الاِحتفالات وإبان مراسم الشعائر والطقوس والمناسبات القربانية التي تتوفر فيها الهبات والعطايا من المنحوتات المصغرة، الطينية والحجرية والخزفية والعاجية، وغالبا الخشبية التي تعرف بالديدالية نسبة «لسيتيرون» حاكم بلاتيي.
هذا إلى جانب الأعمال الطينية والخزفية المتعددة في بلاد اليونان القديمة، خاصة منطقتي كورنثيا وأثينا اللتين تتميزان ببراعة حرفييها ودور التقنية الأولى ( technè) – ومنها جاءت الكلمة الحالية (تقنية) – في ازدهار العالم اليوناني القديم. فكان دور الحرفي الفنان فاعلا وجوهريا منذ بدايات العصر الحديدي الثاني ( période géométrique) انطلاقا من القرن التاسع قبل الميلاد. من بين التقنيات التي عملت على تطوير الصوَرية في الطين والخزف والحجارة وجدران المعابد والساحات العامة مثل هضبة الأكروبول في أثينا نذكر: التحول من اعتماد كود، أو ترقيم الوجه الأسود إلى كود الوجه الأحمر، استعمال فتحات (incisions) لتحديد الأشكال وتوضيح العلامات الجسدية والأكسسوارية بطريقة محتشمة، أو محدودة نسبيا، كذلك إظهار الجسم في وضعية مقابلة للمشاهد بينما يكون الرأس في وضعية جانبية، مع تحديد الشخصيات أو المشاهد المرسومة بفريز من الأعلى والأسفل، في شكل شريط يتخذ أشكالا هندسية متنوعة (الفترة الحديدية) وأشكالا حيوانية ونباتية (الفترة الكلاسيكية المستشرقة).
الأبعاد التمويهية في «البوليكروميا» (polychromie) أو التماثيل الملونة
تعطينا القراءات التعبيرية والانطباعية للأعمال النحتية، لاسيما في التماثيل أو في المنحوتات الصغيرة تأملا مجددا يسافر بنا إلى مجالات التجريب والطليعة، وبالذات إلى سبر أغوار الثورة الفلورنسية (بداية القرن 15م) التي استمدت عناصر نجاحها من هذه الخصوصية الجوهرية. وهذا وحده دليل على جاذبية الخامة وأهمية التفاصيل، (الخدوش، الأصداف مع البلور لتجسيد العين) في صناعة التعبير الحي، ومقدار تأثير البناء اللوني ودرجة البحث في الخامات، والمجهود المعتبر في تقديم الأعمال في حلة احتفالية تنعكس فيها صورة الآلهة. لذلك يجتهد الحرفيون بكل أصنافهم لتقديم هيئة تشكيلية مجسمة بتقنيات دقيقة ملفوفة بمسحة لونية تتجاوز حدود الصباغة، وتفتح للمتأمل مجالات الرؤية والتأويل، وتجاوز التقديم المادي وصولا إلى المعنى الروحي، وهذا في حد ذاته تمويه وتوسيع لدائرة البحث وتحديث للتناول القديم الجديد، بحيث مهد الاهتمام بنشأة التجربة الفنية الجمالية، لخروجها من دائرة العمل التقليدي المحلي الأولي المُقارب والمتناغم مع ذوق الحرفي واختياراته، إلى حدود تأسيس منظومة ثورية لصناعة المنحوتات والأعمال الفنية، تزامن ذلك خاصة مع الثورة الجمالية الحرفية، التي عرفت بابتكار قوالب حديد الشمع الذائب (les moules en cire perdue) وما تنتجه من صناعات حرفية فنية مطابقة للواقع، عبر عدد من المراحل على غرار سلسلة تماثيل الرياس الواردة في كتاب باولو مورينو. كما اِعتمدت تقنية التمويه على التفنن في عرض الجسد العاري والنصف عاري والشبه عاري، عبر تقنيات الرداء المبلل والرداء الشفاف والرداء المطوي والمجعد والمتطاير، باعتماد وضعية النصف وقوف المعروفة بالكونترابوستو
(contrapposto) مع أجسام مثالية لرياضيين وأبطال مصارعة على الحلبة أو لمقاتلين، وكذلك لعدد من تماثيل الآلهة كتمثال أثينا برتينوس الذي صممه النحات اليوناني فيدياس في القرن الرابع قبل الميلاد، والذي يرتفع 12 مترا فوق أكروبول أثينا، إلى جانب تطوير التقنيات المشتركة الثلاثية التي تجمع الخامات الفضية أوالبرونزية أو الذهبية مع الخشب والعاج، التي تعرف بالكرسيليفنتين (Chryséléphantine) والتقنيات المشتركة الثنائية التي تجمع المعادن الثمينة بالخشب كجسم خشبي يتم تغليفه وتزويقه بالذهب، أو البرونز أو النحاس، وهو موضوع يتميز بتقنيات مختلفة، لربما تكون لنا حوله وقفة مفصلة في تناولات تشكيلية جمالية أخرى.
كاتب تونسي
بعض الحروف ادا سمحثم وكدالك كاتب السطور المحترم شكرا ما زلنا نقول وسنظل بأن التشكيل عالم لاحدود ولن تكون حتى في الخيال سيظل يعرف ما لم يعرف ويفاجئ أيضا باالمحير المدهش فما قاله الكاتب فيه كفاية لوحة بعطر التاريخ القديم معارك ظلت في سجل التاريخ