يمكن اعتبار كتاب «ما الأدب؟» لجان بول سارتر، أول تنظير علمي لفعل القراءة، حيث أبدى فيه اهتماما كبيرا بالقارئ، انطلاقا من سؤال جوهري هو «لمن نكتب؟». إن العمل الأدبي، حسب سارتر، يضمر بالضرورة صورة قارئ من أجله وجد هذا العمل.
وبشكل مواز مع هذا الاهتمام، من طرف سارتر، بالقارئ وفعل القراءة، سوف تبرز مجموعة من الأبحاث الفلسفية التي ستهتم بمسألة «الفهم» في بعدها الأنطولوجي، محاولة بذلك تعميق النظر في مقولة التأويل. إلا أن التنظير الحقيقي للتلقي الأدبي، سوف لن ينضج إلا مع نظرية «جمالية التلقي» بمدرسة كونسطانس في ألمانيا الغربية، مع كل من ياوس وإيزر، لذلك سنعمل في هذه الورقة البحثية على بسط بعض من أفكارهما بخصوص فعل التلقي.
* ياوس وأفق التوقع
يخصص ياوس في كتابه القيم «من أجل جمالية التلقي»، أطروحة خاصة لمفهوم «أفق الانتظار» إذ يعرفه قائلا: «ونعني بأفق الانتظار، نظام الحالات القابلة للتحديد الموضوعي، الذي يعود، بالنسبة لأي عمل، إلى ثلاثة عوامل رئيسية: خبرة الجمهور السابقة بالجنس الذي ينتمي إليه هذا العمل. ثم شكل وموضوعات الأعمال السابقة التي يفترض معرفتها. وأخيرا التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية بين العالم والواقع اليومي»(من أجل جمالية التلقي).
نشير إلى أن ياوس يشدد على أن العلاقة التي تجمع بين «أفق التوقع» لدى جمهور القراء والعمل الجديد، هي دائما مهددة باستمرار بالتوتر أو الانقطاع لأن «الانزياح»، لغويا كان أم تركيبا أم إيقاعيا، قد يفاجئ القارئ ويصدمه، الشيء الذي يجعل هذا العمل في صراع مع أفق توقع هذا القارئ. والحاصل، حسب ياوس دائما، أن العمل الأدبي، إما أنه ينسجم مع أفق توقع القارئ ويتطابق معه، ونكون حينها بصدد عمل أدبي عادي، وإما أن العمل سيخرق هذا الأفق بدرجة معقولة ومقبولة، ما يؤدي إلى تغيير وتطوير أفق توقع هذا القارئ، وإما أن العمل الأدبي الجديد قد يخلق بينه وبين القراء نوعا من المباعدة بفعل مغايرته واختلافه، عما درجت عليه عادة الكتابة الأدبية في الجنس نفسه، فيؤدي ذلك إلى تخييب أفق توقع الجمهور. يقول ياوس في هذا الشأن: «إن التمكن من إعادة تشكيل أفق توقع عمل ما، يعني أيضا تعريف هذا العمل باعتباره عملا فنيا، تبعا لطبيعة وشدة تأثيره على جمهور معين. وإذا سمينا (الانزياح الجمالي) هو تلك المسافة بين أفق التوقع الموجود قبلا والعمل الجديد، فإنه يمكن لتلقيه أن يقود إلى «تغيير الأفق»، إن بمعارضته لتجارب عادية، أو بإبرازه لتجارب أخرى يعبر عنها لأول مرة. هذا الانزياح الجمالي المقيسي بردود فعل الجمهور يصبح مقياسا للتحليل التاريخي». وعلى هذا الأساس فإن العلاقة بين العمل الأدبي الجديد وأفق توقع الجمهور، إما أنها تكون موسومة بالتطابق (عندما يتعلق الأمر بعمل عادي)، أو تنتهي بتغيير هذا الأفق (في حالة انزياح وجدة العمل)، أو يكون المآل هو تخييب أفق التوقع (عندما يكون العمل مختلفا أو مغايرا تماما للعادات والأعراف الكتابية أو الأدبية). والأكيد، حسب ياوس، أن قيمة العمل الأدبي الجمالية والفنية، تتجلى في مدى خلخلته وزعزعته للمعايير الفنية التي تتحكم في أفق توقع الجمهور، عبر قراءاته المتعددة، وبذلك يصبح مفهوم «أفق التوقع» مساعدا قويا للدارس في تحديد طبيعة العلاقة بين النص الأدبي والمتلقي، وقياسا مهما للحكم على قيمة العمل، فنيا وجماليا. إلا أن ياوس يقرٌّ، مع ذلك، بأن مفهوم «أفق التوقع» هذا، يطرح مجموعة من التحفظات نظرا لارتباطه الشديد بمجال الأدب دون المجالات الأخرى. إن اقتصار هذا المفهوم على الأدب، في نظرية التلقي الياوسية، باعتبارها منهجا تأويليا، جعلها مثار اعتراضات كثيرة بسبب افتقارها للتدقيق السوسيولوجي. يقول ياوس «ولن أحاول إنكار أن مفهوم «أفق التوقع» في نظريتي ما زال يعاني من كونه نما في حقل الأدب وحده، وأن سنن المعايير الجمالية الخاصة بجمهور أدبي محدد، كما سيعاد تشــكيله، يمكن وينبغي تعديله سوسيولوجيا بحسب التوقعات النوعية للفئات والطبقات، وربطه كذلك بمصالح الوضع التاريخي والاجتماعي وحاجاته التي تحدد هذه التوقعات».
يرى فولفغانغ إيزر، أن عملية التواصل الأدبي، يستحكم فيها فعل القراءة بالدرجة الأولى. فالنص الأدبي «لا يمكن أن يكون له معنى إلا عندما يقرأ.
ومع كل هذه الجهود التي بذلها ياوس من أجل صوغ نظرية جديدة في الأدب، إلا أنه يقر مع ذلك بأنه لم يقدم شيئا مطلقا أو نهائيا، يقول «إنني، نكاية في اللعنات ومقابل الاختيار بين أن أكون «نبيا يمينيا أو نبيا يساريا» /غوته/، أفضل موقعا لعله في كل حال مريح ببساطة، موقع منهج يمكنه، بسب كونه جزئيا بالذات، أن يحثّ على مواصلة التفكير جماعيا في ما إذا كان ممكنا، وبأي وسيلة، أن نعيد للفن اليوم وظيفة التواصل التي يكاد أن يكون قد فرّط فيها نهائيا» .
إيزر وجمالية التجاوب
يرى فولفغانغ إيزر، أن عملية التواصل الأدبي، يستحكم فيها فعل القراءة بالدرجة الأولى. فالنص الأدبي «لا يمكن أن يكون له معنى إلا عندما يقرأ. وبالتالي فالقراءة تصبح شرطا أساسيا مسبقا لكل تأويل أدبي، وهكذا يُعاد النظر في مهمة المُؤوِّل في ضوء المعطيات النظرية الجديدة لعملية القراءة» (إيزر» فعل القراءة/ نظرية جمالية التجاوب في الأدب»).
ولما كانت القراءة نشاطا موجها من قبل النص، فإن معالجة القارئ له تبدو في غاية الصعوبة، خصوصا إذا كان النص يتميز بالجدة. وإذ أن مؤلفي الأدب يحتكمون إلى اللاتحديد، والبياضات، والفراغات، بما يخلق نوعا من التماثل بين النص والقارئ، فإن ذلك قد يكون وسيلة من وسائل توليد مظاهر الاحتمالية عند المتلقي، التي تشترط القراءة الإيجابية، أي باعتبارها مشاركة. يقول إيزر «وهكذا فليس أمام المؤلف والقارئ إلا أن يشتركا في لعبة الخيال». وتكون هذه العملية ناجحة إذا ما تخلى النص عن هيمنته التوجيهية للقارئ، الذي يسعى إلى تحقيق المتعة. فمتعة القارئ تبدأ «عندما يصبح هو نفسه منتجا، أي عندما يسمح له النص بأن يأخذ ملكاته الخاصة بعين الاعتبار» .
إن ما يتحكم في فعل القراءة، حسب إيزر، هو دياليكتيك الترقب والتذكر في إطار مفهوم آخر وسمه بـ «وجهة النظر الجوالة». فالترقب كقطب أساس في هذا التصور، يعبر عن أفق مستقبلي لما يتشكل بعد. أما التذكر فيعبر عن أفق ماض هو في إطار الاضمحلال.
دينامية هذا الدياليكتيك ناجمة بالأساس عن كون النص الأدبي، لا يقدم نفسه جاهزا ما دام المعنى لا يتجلى في الكلمات، الشيء الذي يستوجب تأويلا تفاعليا من أجل الفهم، يسميه إيزر بـ»الجشطالت» أي التأويل المتسق والمتنامي داخل وجهة النظر الجوالة أثناء فعل القراءة. هذا التفاعل بين القارئ والنص هو الذي يولد الاحتمال، وكلما «تقلص هذا الاحتمال، أصبح التفاعل بين الشريكين أكثر طقوسية. وكلما تزايد الاحتمال، أصبحت ردود الفعل أقل انسجاما، إلى أن تبلغ حالة قصوى، وذلك بتنحية بنية التفاعل بكاملها».
إن نجاح هذه الاحتمالية، مرهون بمدى انضباط نشاط القارئ للنص وهو يسعى إلى المعاني الضمنية التي تعطي «شكلا ووزنا للمعنى». فالنص هو نسق مليء بالفراغات والبياضات التي تحجب المعنى. ومتى «سدّ القارئ هذه الفراغات، بدأ التواصل. وتعمل الفراغات كنوع من المحور الذي يدور حوله مجموع العلاقة بين النص والقارئ».
إن عملية سدّ الفراغات/ ملء البياضات في النص، ونفي العناصر المألوفة والمعطاة سلفا، من شأنها أن تضبط عملية التواصل بين القارئ والنص. فالبياضات «تترك الروابط مفتوحة بين المنظورات في النص وبالتالي تحثّ القارئ على التنسيق بين هذه المنظورات. وبكلمات أخرى تحث القارئ على إنجاز العمليات الأساسية داخل النص. أما مختلف نماذج النفي فتستحضر العناصر المألوفة أو المحددة لكي تعمل على إلغائها. ومع ذلك فإن ما يلغى يبقى ظاهرا».
٭ كاتب مغربي