جمال مبارك… أزمة رجل ثقيل الظل!

المصريون شعب يحب الفكاهة، وخفة الظل أحد أركان الكاريزما المصرية، وإلى حد ما، كان ثلاثة من رؤساء مصر الذين حكموها لأكثر من نصف قرن يمتلكون درجات متفاوتة من التلاعب اللفظي واستخراج الفكاهة في أحاديثهم، وبعضها كان يتم في مناسبات ذات صبغة سياسية، عبد الناصر والسادات ومبارك، ويبدو أن الأمر وصل بكاتب مبدع مثل وائل عبدالفتاح لأن يحمل مسحة الكآبة التي تغلف قيادات الإخوان وخطابهم بشكل عام جزءاً من فشلهم في التواصل مع المصريين.
وقياساً، يمكن القول إن تجربة جمال مبارك فشلت على المستوى الشعبي بسبب ثقل ظله، وقدرته على استثارة الملل وطريقة حديثه التي لا تختلف عن أي روبوت، بل تفوقت بعض النماذج التي قدمت لروبوتات عليه في قدرتها على الحديث بطلاقة وجاذبية، وكأن مبارك الابن، لم يدرك هذه النقطة، ولا تقدم أحد من فريقه لينبهه بخصوصها.
وكأن شيئاً لم يحدث، ولم تنقلب الدنيا رأساً على عقب، ولا أهدرت دماء ولا عيون فقدت ضياءها برصاص القناصة، ويعود مبارك الصغير ليظهر في حديث ظاهره الحديث عن انتزاع البراءة لوالده في التربح من منصبه، وباطنه محاولة لتدشين نفسه سياسياً من جديد، أما البراءة فيعرف جمال جيداً أن شخصاً بإمكانياته ما كان ليحقق ولو شيئاً بسيطاً من مئات الملايين، وربما المليارات التي أصبحت في حوزته اليوم بعد قرارات أوروبية بتحرير أرصدة العائلة، لو لم يكن ابناً لرئيس الجمهورية يستطيع أن يخضع المؤسسات والقوانين لمصالحه، وهذه المشكلة الحقيقية التي لا يدركها الفتى المدلل، فالمصريون لم تكن مشكلتهم كبيرة مع مبارك حتى ظهور الابن على الساحة لتبدأ منظومة كاملة من الفساد في التمدد والسيطرة على أجهزة الدولة، لتلزمها بصورة موازية، منظومة أخرى من القمع والبطش كان على رأسها وزير الداخلية حبيب العادلي، ولم تكن صدفة أن تنطلق دعوات الثورة في مصر بالتزامن مع عيد الشرطة، بكل ما يحمله من رمزية لرجال الداخلية كانت تستدعي أن يحضر الرئيس للاحتفالات في تكريم معلن لجهود الوزارة ومباركة لمنهجها وتجاوزاتها وفظائعها.

يعود مبارك الصغير ليظهر في حديث ظاهره الحديث عن انتزاع البراءة لوالده في التربح من منصبه، وباطنه محاولة لتدشين نفسه سياسياً من جديد

بجانب السمات الشخصية، يمكن لثقل الظل (تقل الدم) الذي يحمله مبارك الابن، أن يجد جذوره في فهمه لمبدأ الاستحقاق الذي جعله يعتبر نفسه وريثاً لوالده مع أنه يفتقد لأي مبررات يمكن أن تضعه بمحاذاة ملايين المصريين الذين عركوا الحياة وكابدوا مصاعبها، لدرجة أنه أصبح يرى مصر تركة، لا يمكن لأحد أن ينازعه فيها، وعلاوة على ذلك، عدم شعوره بأهمية الشعب المصري وانطباعاته حوله، فالرجل يعرف القليل من المصريين وجميعهم مضطرون لهز رؤوسهم عندما يتحدث علامةً للفهم والاستيعاب والإعجاب، وللضحك المصطنع لو ألقى الوريث نكتةً أو ما يشبه النكتة، والتعليق مع الإشادة والإضافة على تصوراته ومشاريعه. هذه الظروف جعلت الوريث وبالتحالف مع أحد الأغرار الآخرين في مجال السياسة، أحمد عز القادم من عالم احتكار صناعة الحديد في ظروف غامضة، يدبران انقلاباً كاملاً في مجلس الشعب المصري، يضرب جميع التوازنات القليلة والهشة القائمة سابقاً، التي كانت تعطي بصيصاً من الأمل، أو ثغرة صغيرة للتنفيس، فيستحوذ رجاله على كامل مجلس الشعب في انتخابات 2010 ليتم تجهيز مشروع التوريث من غير أصوات معارضة، ومع معرفة الوريث أن هذه الأصوات لم تكن لتعيق وصوله إلى كرسي الرئاسة، ولكنه لم يكن ليقبل بمجرد التشويش على هدوئه الداخلي، أو التلميح إلى العيوب الكثيرة التي تحول دون رئاسته لمصر. المشكلة أن قطاعاً من المصريين يرحب بالوريث ويحتفي بعودته إلى الظهور، بعد فشل الثورة، وبعد أن تحولت ظروف عصر مبارك إلى سقف طموح يحلم المصريون بالعودة له من جديد، فالأمور تغيرت أمام معظمهم للأسوأ، فالتعليم والصحة بكل عيوبهما في عصر مبارك يصبحان اليوم موضوعاً للتساؤل حول استمرارهما، والمصانع تنسحب أو تصفى أو تغلق، والفورة العقارية التي تحدث لا تشملهم، بل تقصيهم وتشعرهم بضآلتهم، والوعود المتتابعة بتحسن الأوضاع والازدهار تؤول إلى مزيد من الغلاء وشظف العيش، وعلى غير مبعدة من بيان (البراءة) الذي يعلنه مبارك الابن تبدو الدولة في مصر حائرة وتناقش من جديد موضوعاً قديماً يتعلق بملكية الدولة لتستعيد رجال الأعمال الذين كانوا يشكلون تهديداً وجودياً لـ(الستر) الذي يرجوه معظم المصريين من الدنيا، فما الذي يختلف؟ لقد كانوا موجودين بكل غطرستهم في عصر مبارك ويعودون اليوم بوصفهم منقذين، وكم سيمنحهم ذلك من المزايا والمكتسبات؟ يرى البعض أن عودة مبارك أصبحت في مجال النقاش العام، وأن بعض التجهيزات يمكن أنها بدأت فعلياً، فأحمد عز الأمين العام السابق للجنة السياسات التي فصلت من أجل التوريث يعود إلى الواجهة في مواقعه لاحتكار صناعة الحديد، بعد فشل تجربة أبو هشيمة الذي صنعته مرحلة ما بعد الثورة، ويبدو عز الضعيف في خلفيته السياسية وكفاءته في التواصل، حكيماً معتقاً مقارنة مع أبو هشيمة الذي لم يفهم لعبة السياسة إلا من خلال الشهرة والاستعراض في مراهقة متأخرة تسيطر عليه، وعلى ذلك يمكن القياس أمام الطريقة التي تمضي بها الأمور في مصر، حيث يمكن لأي شخص أن يفعل أي شيء، وتبدو هزالة الأشخاص الذين صنعوا في عجالة من الجنرال عبد العاطي صاحب اختراع الكفتة إلى الإعلامي أحمد موسى. والسؤال المرير، كيف أصيبت مصر الولادة بهذه الحالة من العقم لتتضاءل الخيارات إلى المفاضلة بين المساوئ والعيوب؟

*كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية