في التقويم الفلاحي التونسي الذي يعود إلى أجدادنا الأمازيغ، تقسم السنة إلى حقب تعتمد في الفلاحة. نحن الآن في «الليالي السود» التي دخلت يوم 14 يناير/كانون الثاني. يقول الفلاحون عندنا «الليالي السود ينبت فيها كل عود» أي هي الأيام المثلى للغَرس. بعض الظرفاء عندنا يتندرون باقتران دخول الليالي السود بقيام ثورة الياسمين من عشر سنين. بعض الذين أخذوا الأمر على المزحة باتوا يعتقدون أكثر من أي وقت مضى في رمزية هذا الموعد وفي رمزية أيامه. أنا الذي لا يستسلم لسواد الأيام السود ولا لبياضها، تركت من مدة لغيري الخوض في هذه المسائل الرمزية.
في التقويم الفلاحي أيضا موعدان هما، نزول جمرة الهواء يوم 20 فبراير/شباط وفيه يصبح الهواء دافئا تدريجيا ونزول جمرة الماء يوم 27 منه وفيه تزول برودة مياه الأنهار وتكون مقدمة لدخول الربيع في اليوم الموالي. لا علاقة للجمرة ههنا بمعناها في شعيرة الحج (رمي الجمرات) وهو رمي الحصيات لرجم الشيطان. الجمرة هنا هي قطع فحم ملتهبة. ولا مصلحة لي في هذا المقال في الربط بين معنى الجمرة الحصاة والجمرة الملتهبة، رغم أن النار معنى يقتضيه ذكر الشيطان الذي تلقى عليه الجمرات.
الشتاء البارد في مناطقنا لا يُغلب إلا بإيقاد الحطب، الذي تمدنا به الغابات المحيطة، كان الشجر في وقت الشدة كافيا للناس جميعا في زمن قلتهم وكثرة الغابات. في ذلك الوقت كان الناس يشعلون النار ويجتمعون حولها، وفي بداية اشتعال النار يفحج المصطلون للهب. هذه عادة قديمة عندنا ويبدو أنها عادة عربية أقدم نسبها بشار بن برد إلى العرب في قصيدته التي طالعها (جدي الذي أسْمُو به ٭ كِسْرى وسَاسَانُ أبي ) إلى أن يقول (ولا اصْطَلَى قَط أبِي ٭ مُفَحجًا للهَبِ).
حين يزول اللهب وتهدأ ثورة النار يصبح الحطب جمرا. على الجمر يجتمع المصطلون ويتحدثون أو يسكتون ليس مهما، المهم هو أن يشعروا بالدفء في معناه البهيمي المتجرد من العاطفة. الجمرُ الذي في الكانون هو الذي يجعل المصطلين يجتمعون قبل أن يأووا إلى فراشهم الجماعي.
حين تنزل جمرة الهواء إلى الأرض يأتي الدفء فالجمرة ههنا ليس فيها معنى الاحتراق، بل معنى الإنقاذ من برد هائل، تنزل جمرة الهواء ثم تليها جمرة الماء؛ لن يتجمد الماء بعدها، بل يمكن أن يشرب وشيئا فشيئا يمكن أن يغتسل به. الجمرة في هذه الثقافة شيء منتظر في عز الشتاء هي ثمرة الحطب وهي ثمرة مقبلة من السماء قبل قدوم ثمرات الربيع. لا أعرف كيف اقترن الانتظار بالجمر في ثقافة من يقول الناس، أنا أنتظرك على أحر من الجمر. هل يوجد أشد حرارة من الجمر حين يتلبس الجمر بالجسد وليس بالجسد من برودة؟ نفهم من هذا القول إن الانتظار شيء حارق ونار تلظى تحرق روح المنتظر قبل أن يأتي المنتظَرُ. ما يقوله علماء النفس وهم يتحدثون عن الانتظار مثير للاهتمام: لا يوجد انتظار محضٌ، الانتظار عندهم هو انتظارٌ لشيء مرغوب فيه أو مخشي منه. المرغوب فيه هو الذي يجعل الناس ينتظرونه على أحر من الجمر، يتوثبون إلى لقائه غير أن الزمن يطول ويتمطط. الانتظار هو الذي يمكن الزمان من الخشب والنار، ويشعل له عود الثقاب ويقول له اشتعل واحرق من ينتظر.
يقول كارل غروس عالم النفس الألماني: «نحن لا نكترث البتة بالحاضر، ولكن بالشيء الذي سيأتي» ويمثل لذلك بقوله إننا حين نستمع بانتباه إلى صوت خافت، فإن الانتباه لا يتمثل في أن ندرك الصوت الذي نسمعه في آذاننا، بل في أن نبحث عن «موجة الوعي التي تلحق ذلك».
في دراسة عنوانها «ما الانتظار؟» نشرت عام 1914 باسم الآنسة موران Morand باعتبارها عضوا في مخبر علم النفس والفسيولوجيا في جامعة السوربون، بينت أن الانتظار «توقع واستعداد ولكنه أيضا وعي بالزمان الذي يمر؛ وتغيرات تطرأ على التكهن والتحقق». وتنافش الدارسة ما ساد في «علم نفس الانتظار» من أن الشيء المنتظر يكون شيئا يُخشى منه أو يرغب فيه؛ وهي تعتقد بدلا من ذلك أن الانتظار تحكمه المصلحة أو الفائدة. الانتظار هو توقع وتكيف ووعي بالتوقع والتكيف.
ما من شك في أن عبارات النار والجمر ومرادفاتهما تغيب عن كلام علماء نفس الانتظار الذين يقيسون الأشياء بمقادير المفاهيم التي تناسبها، ولا يقيسونها بحجم اللظى الذي يكتوي به من ينتظر شيئا مرغوبا فيه. هل يمكن أن نسمي ارتقاب الشيء الذي يخشى منه انتظارا أيضا؟ وهل يمكن أن يكون انتظاره كمن يحمل النار بين يديه. يبدو أن الزمن الذي يفصل بين توقع الشي الذي يخشى منه وحدوثه فعلا هو زمن ملبس، فلا هو ينتظر أن ينقضي ولا هو ينتظر أن يطول. حديث العامة أو علماء النفس عن الانتظار لا قيمة له، إن نحن لم نبحث له في اللغة عن إطار يربطه بتلكم النتائج. اللغة تجعلنا بواسطة الزمان اللغوي في وضعية انتظار. نحن في وضعية انتظار أبدي للحظة زمنية هي «الآن». هذا «الآن» لا فائدة لغوية له إلا لأنه من يتحقق فيه التلفظ. الزمن اللغوي زمن لا يتحقق إلا إذا تحقق نطقنا للكلام في الحاضر بعدها تتوزع الأزمنة إلى زمن سابق لزمن التلفظ هو الماضي وزمن محايث له هو الحال، وزمن لاحق له المستقبل. في الأزمنة الثلاثة يبدو الزمن المستقبل هو الزمن المنتظر أبدا.
في هذا السياق يقول كارل غروس عالم النفس الألماني: «نحن لا نكترث البتة بالحاضر، ولكن بالشيء الذي سيأتي» ويمثل لذلك بقوله إننا حين نستمع بانتباه إلى صوت خافت، فإن الانتباه لا يتمثل في أن ندرك الصوت الذي نسمعه في آذاننا، بل في أن نبحث عن «موجة الوعي التي تلحق ذلك». إن جمعنا هذا الكلام بقول قديم للزجاجي من أن أصل الأزمنة في الأفعال هي المستقبل، وأنه لا يوجد حاضر قلنا إن أفعالنا الماضية التي نصفها بـ(ضرب) و(خرج) و( فرح) هي في الأصل أفعال كانت في رجم المستقبل، ثم صارت راهنة قبل أن تصبح ماضية. الأصلية في الزمان حركة عكسية مع الزمن الفلكي، أو في تعاقب الأزمنة المألوفة. وهذا يعني أني متى قلت (خرجت) فذلك يعني أني كنت في لحظة ما أنتظر أن أخرج، كنت أترقب أن يحدث مني هذا الفعل قبل أن يحدث حقا وقبل أن يصبح ماضيا.
كثير من الأفعال تجد تأسيسها في المستقبل أي هي أفعال يحكم إدراكها الترقب وانتظار التحقق. ففي قوله تعالى «سَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أي مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» (الشعراء : 227) فإن صيغة الزمن منفتحة على انتظار لمعرفة موضوعها ما سيكون عليه منقلب الظالمين. هو انتظار لشيء مخيف ينتظر الظالمين، أو قل من يعون بأنهم كانوا ظالمين. ليس هناك في الكلام ما يصرح بنوعية «المنقَلب» لكن كل شيء في النص الأكبر وفي الثقافة يوحي بنوعيته. في الذكر الحكيم انتظار، لكنه الانتظار ينبغي أن لا يقصر على الوعيد، يدرك أيضا في «موجة الوعي» التي تلحق بذلك الوعيد، والتي تجد مركزها في الفعل (يعلم) وفي صيغة الزمان المستقبل. جمرة الانتظار ههنا يحملها الظالمون ولا يشعرون، ولحظة الوعي هي لحظة الشعور بالجمرة.
في قول المتنبي: (سَيَعْلَمُ الجَمْعُ مِمنْ ضَم مَجْلِسُنَا* بأننِي خَيْرُ مَنْ تَسْعَى بِهِ قَدَمُ) يرتبط الانتظار بـ«المصلحة» على حد عبارة موران؛ ويسير فيه الزمن بإيقاع صاحب المصلحة. الشاعر المنتظِر هنا هو صاحب المصلحة في أن يتحقق مضمون الانتظار بسرعة: أن تحدث حالة وعي لاحقة عند الآخرين بأن المتكلم هو الأفضل، لكن إيقاع الزمان لدى الشاعر المنتظر ليس كإيقاعه عند من ينتظر منهم الشاعر بوعي بالموضوع المنتظر.
الجمرة في هذا السياق هي جمرة من صَنَع الانتظار، وموضوع الانتظار يحملها ولا يستطيع أن يلقيها. كم نصنع لأنفسنا جمرا ونحن ننتظر، وكم نحمل الزمن المقبل وعيا لا يدور بخلده ولا بخلد من نعتقد أنه ينتظر.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
هناك انتظار ممل كالانتظار الذي يعاني منه المذيع العربي الذي يغطي وصول طائرة الضيف الكبير إلى أرض المطار و يأخذ ( باللت و العجن) و البحث عن الكلمات و مطّها في محاولة لتبديد الوقت إلى أن تحط الطائرة ليتنفس و نتنفس معه الصعداء. فيروز احترفت الحزن و الانتظار و احترفناهما معها ترقبا للعدالة التي أدمنت على الغياب. فيروز أيضا تؤكد أن ( الناطر، ناطر على نار). الموت ينتظرنا جميعا بكل برودة أعصاب و نحن نحيد عن لقائه كما يحيد المدين عن لقاء الدائن. في انتظار مقال قادم لك يبعث كالعادة على التأمل، شكرا لك و للقائمين على موقع القدس العربي.
مقال جميل أستاذ توفيق..جمرة الحطب والكانون في شتاء تونس لها رونق خاص حتى أن أجدادي الموريسكيين في تونس (مع احترامي لأجدادك الأمازيغ) كانوا يسمونها العافية.. أحاول فهم الرمزية أو العلاقة بين كلمة العافية وجمرة حطب شجر الزيتون ربما بما توحي إليهم هذه الأخيرة من دفء وصحة وأكل وشاي