الاختلاق الميثولوجي تمثيل سردي ما بعد تاريخي يستند فيه القاص إلى وعي ذاتي بميثولوجيا الخرافات والأساطير، به يتمكن من إعادة كتابة تاريخ واقعة ما، محققاً مفارقة ما بعد حداثية، سحراً وفتنةً وإقناعاً. والاختلاق عمل إبداعي، حسب كارل يونغ، لأنه يعود إلى زمن البدايات الكامنة في رؤى النفس اللاواعية، حين كانت الطقوس تقارب الحلم بالواقع وتنشد السحر في علاقة الإنسان بالطبيعة.
وتعد الميثولوجيا موئلا كبيرا للاختلاق، في صنع ما هو عجائبي وغرائبي وسحري، كونها هي اللامعقول الذي يعطيه العقل عقلانية. والطقوس هي أكثر أشكال الميثولوجيا قابلية للاختلاق بالعناصر الثلاثة (الذاكرة والتراث والمشافهة)، وكل طقس هو فعل تكراري شفاهي، حيث التكرار هو التراث، والشفاهية هي الذاكرة التي بها يتم تخيل الحدث التاريخي في شكل قصة ميتاـ تاريخية هي بمثابة استحضار لتاريخ خاص، يضاد التاريخ العام الذي هو تاريخ المنتصرين والجبابرة والأسياد.
وباستثمار الفعل الميثولوجي، يكون القاص قد غادر حداثة السرد قاصدا طفولته، مختلقا حكاية خرافية ليس لها في التاريخ الرسمي وجود؛ بل لها وجود شفاهي في الذاكرة كقصة محكية، تظهر مسموعة ومدونة على يد القاص الذي يستعيد الميثولوجيا في وعيه، جاعلاً ذاكرته محتدمة بأصوات الماضي صانعاً قصة ميتاـ تاريخية.
بعبارة أدق نقول إن حضور الحس الميثولوجي، هو الذي يجعل القاص وهو يستلهم الموروث الحكائي الشفاهي، مسكوناً بنزعة تاريخية مؤسطرة وعجائبية.. ولكن ما الفارق بين الاختلاق والتخييل؟
الجواب أن كليهما فعلان سرديان، بيد أن الاختلاق طفولي مرتبط بالحكاية كمتن يحاكي الزمن الطبيعي. بينما التخييل فعل نما على الأول مرتفعا بالحكاية إلى مصاف القصة المتخيلة، كمبنى يقوم على مراعاة التسبيب في محاكاة الواقع. ولا يعني هذا أن الأفضلية للقصة، إذ يظل في الحكاية من السحر ما يجعلها حقلا إبداعيا خصبا، إليه عزا تودوروف جماليات العجائبي، مؤكدا أن في الفعل العجائبي من الجدة ما تجعله حيويا، كسرد ما بعد حداثي، والسر في حيويته الحيرة التي تعطيه الحياة. والحيرة فعل استفزازي بالنسبة إلى قاص مثل جمعة اللامي، مفتون بواقعة كبرى، باحثا في ميثولوجيتها وما اكتنزته ذاكرته الشفاهية عنها من عهد الطفولة إلى عهد الريعان والوعي، كموئل ميثولوجي، منه يختلق قصصه الميتاـ تاريخية بفاعلية سردية، هي عبارة عن عملية اكتشاف جنوني لكل ما هو غير تقليدي إطارا واحتواء، عائدا إلى الأسطورة، ومستثمرا معها التراث لا بوقائعه الكثيرة التي لها أهميتها الميثولوجية كحرب داحس والغبراء والبسوس وذي قار، وكالسير والمغازي النبوية، والقصص الشعبية عن مجنون ليلى وعنترة وعبلة؛ بل بواقعة واحدة سكنت ذهن القاص، فهام به إبداعيا هي عاشوراء. ربما لأن لها خفايا كامنة بصورة رئيسة في الهامش الشعبي لا الرسمي، لتكون مادة سردية خاما، جرّب فيها القاص اللامي مرارا وتكرارا، من دون أن يكون للتكرار فيها أي بعد سلبي.
والسبب الذي يجعل التكرار لانهائيا وغير سلبي هو غنى الواقعة، وثراء أحداثها، ما أتاح لجمعة اللامي تمثيل تراجيديا عاشوراء بالاختلاق الذي هو وسيلة تعطي للمحتوى الماضي شكلا فنيا ميتاـ تاريخيا، ناظرا إلى الواقعة طقسا شعائريا، وفعلا مناسكيا يُستحضر ذهنيا ويتفاعل معه نسولوجيا، فتمثل تراجيدته تاريخيا في وقت محدد من كل عام.
ومن القصص التي وظف فيها القاص الاختلاق الميثولوجي قصة «اليوم الأخير من زمن مدينة قديمة» المنشورة في مجلة «مواقف» العدد 13ـ14 يناير/كانون الثاني 1971، وفيها اتخذ من المهدي بطلا، جامعا اليومي بالميتافيزيقي والعجائبي بالغرائبي والواقعي بالسيريالي.
والقصة مقسومة إلى عالمين اثنين: المتن هو عالم فوقي واقعي وهامش هو عالم تحتي ميثولوجي. فأما الفوقي فعبارة عن مدينة خرافية نشأت وسط الصحراء، اسمها اليشن، فيها شوارع ودكاكين حلاقة وبقالة، والحياة فيها روتينية. وفجأة تنقلب رأسا على عقب حين تتحقق نبوءة إمام المسجد بظهور جواد الأجداد، وهو يصطحب المجنون متعب المطرود، فيبكي الإمام ويصرخ، والحاضرون معه في المسجد يبكون لاطمين صدورهم، وهو يقول لهم (يا أبناء اليشن إحزموا حقائب الهجرة إلى مدن أخرى لقد كان معنا الرجل الذي حدثنا عنه الأجداد ولم نعرفه. مات هذا اليوم جواد الأجداد) وجواد الأجداد هو محور القصة المتنبأ به والمبحوث عنه، وحوله ستلتف أطراف القصة كترميز إلى المنتظر، الذي سيكمل رسالة الحسين في الإصلاح ونشر الخير. وبغياب الجواد تظهر المرأة (رمزية) رمز الشر وهي تلعن الأبناء الذين منعوها من رؤيته للمرة الأخيرة.
يجعل القاص عالم قصته عالما متماسكا بقوانين استحدثها بمنطقية، وظل يجرب فيها بإبداعية. وقد تجسدت عاشوراء ميثولوجيا للقهر وتراجيديا لتاريخ الظلم وغاية سردية لم يدخر القاص جمعة اللامي وسيلة أو طريقة إلا ووظفها في خدمتها
أما العالم التحتي، فعبارة عن هوامش تكشف أسرار العالم الفوقي، وحسب أرقام وضعت في المتن العلوي. والمفارقة أن الهامش سيستمر بينما المتن يتوقف في المنتصف، وكأن في انتهاء القصة بالهامش دلالة على تاريخين: التاريخ الذي ينتهي وهو المتن المركزي، والتاريخ الذي سيستمر وهو الخاص الهامشي. وسبب استمرار التاريخ الخاص هو حكاياته الميثولوجية، التي لم يسجلها التاريخ المركزي الكلي، ليظل ما دوّنه أقل بكثير من الحكايات التي نسيها، وأهملها فظلت خاصة شفاهية ولا نهائية. ومن تلك الحكايات المهملة، حكاية جواد الأجداد القادم من الشرق الذي سيواصل رسالة الحسين، وقد اختلق له السارد مدينة افتراضية سماها اليشن (اليشن مدينة موجودة في خرائطي الشخصية فقط، مع قناعتي أنكم في خرائطكم الشخصية قد تمتلكون مثل هذه المدينة، ولكن إذا قربت الموضوع إلى الذهن العادي، فإني سأضع أمامكم المعلومات التفصيلية الكاملة عن هذه المدينة، التي استقيتها من الأضابير والوثائق والمستندات، التي وجدتها في مخبأ الرجل ـ جواد الأجداد) صانعا للمدينة سجلات خاصة، هي عبارة عن مخطوطة ورسالة مجهولة وكتب تراثية. وستتكرر هذه المدينة في بعض قصص جمعة اللامي، ثم تصير اسما لمجموعة قصصية كاملة.
ويغوص السارد باحثا عن مزيد من الشر، فيختلق حكاية أخرى عن حامد الفرهاد وزوجته مضرية، ووزيره هامل المعيوب، اللذين يدبران مؤامرة قتله، ولكي يثبت صحة الحكاية يحيل على مصدرها المختلق أيضا (من ما فاتك من دهاء النساء مخطوطة موجودة في مدينة اليشن) ويتبع الحكاية بنبوءة مصدرها (رسالة خطية وجدتها في دار الإمام، لم تكن مؤرخة وبدون أي توقيع). وتنتهي القصة نهاية مفتوحة، وقد أعادنا السارد إلى العالم الواقعي الذي فيه غابت الحقيقة، حقيقة الرجل جواد الأجداد، كإشارة اليغورية إلى أن الشر عالم تحتي والنزول إليه هو الطريق إلى بلوغ الحقيقة.
ومن الاختلاق الميثولوجي أيضا أسطرة الواقعة، وليس غريبا اختلاق الأسطورة: أولا، لأن الإنسان ما زال قادرا على صناعة الأساطير، كمصدر مهم من المصادر التي بها تؤسطر الأحداث استحثاثا للتاريخ، واستكناها لخفاياه ومسكوتاته. وثانيا، لأن للأساطير ارتباطا وثيقا بالتراث الإنساني الذي هو بمثابة مخيال اجتماعي وخطاب رمزي استودع في الذاكرة بشكل جماعي لا واع. ما يجعل أمر استنهاض الذاكرة ممكنا بالاختلاق الأسطوري كاستذكار ميثولوجي يسمح بإعادة تأويل التراث ارتحالا في الزمان، أما استرجاعا لماضيه أو استباقا ليوتوبياته أو مكوثا في حاضره، بنوعين من الساردين:
ـ سارد هو بطل أسطوري بجواد وسيف وصوت يؤرخ لغير المؤرَخ كما في قصة «تاريخ القتلة».
ـ سارد عليم ببطل غائب هو شخصية من شخصيات التاريخ الإسلامي، يلبسها لبوس الحاضر والنبوءة، ترافقها لا محالة. والسارد وحده يعرف أين يجد بطله، برؤية خلفية تجعل الكاتب في منأى عن الانحياز لكن على مقربة من الاشتمال والهيمنة على شخصياته.
ومن تلك الشخصيات سلمان المحمدي في قصة «رباعية الخروج من الجحيم» المنشورة في مجلة «الأقلام» العدد الثالث مارس/آذار 1974 وقد بدّل القاص اسمها إلى «تحولات سلمان المحمدي» عندما جمع أعماله القصصية في كتاب «الكائنات» 2012.
وفي قصة «من قتل حكمة الشامي» أفعال قصصية مؤسطرة محورها انتظار عودة حكمة على جواد القاسم، الذي أسطرته النبوءة، كما تأسطرت شخصية ونسة.. وفي نهاية القصة يظهر حكمة الشامي (على جواد القاسم يحمل رأسه المذبوح.. فقال: قل لقومي.. من قتل حكمة الشامي؟) كتاب «الكائنات». هكذا يجعل القاص عالم قصته عالما متماسكا بقوانين استحدثها بمنطقية، وظل يجرب فيها بإبداعية. وقد تجسدت عاشوراء ميثولوجيا للقهر وتراجيديا لتاريخ الظلم وغاية سردية لم يدخر القاص جمعة اللامي وسيلة أو طريقة إلا ووظفها في خدمتها، وبسببها نحا منحى التجريب، مداوما على تكرار واقعة عاشوراء في قصصه الميتاـ تاريخية، نابشا رواكد التاريخ العام أو الرسمي، باحثا عن خفاياه وهوامشه مرة بالميتاسرد ومرات بالاختلاق الميثولوجي. والحقيقة أن افتنان القاص جمعة اللامي بالتاريخ لم يكن وراءه قصد أخلاقي أو وجودي؛ بل هو أكثر من ذلك بكثير. إنه بحثه المهموم والمحموم عن الحقيقة، الذي جعل ذاكرته مرنة بالتخييل ومخيلته مستحثة بالتمثيل، منتجاً قصصاً ميتاـ تاريخيةً.