اهتم الفلاسفة والمفكرون اهتماماً ملحوظاً بالتاريخ، بحثاً عن حقيقته، وكان لفيكو رؤية ما بعد حداثية سابقة لزمانها، مفادها أنّ أجمل صورة للتاريخ هي إعادته من دون تكراره أو اجتراره. ومن هذه الرؤية أفاد كثير من مفكري عصرنا وفلاسفته، ومنهم هايدن وايت، الذي أثار أسئلة كثيرة حول التمثيل القصصي وسياسته في التضاد مع التاريخ، تحدياً لأعرافه بحس سردي ما بعد حداثي.
وفي إطار اهتمام بول ريكور بالتاريخ ميّز بين الماضي والتراث، فالتراث واقعة مكتملة، يجب أن نفهمها بوصفها جدلا متواصلا بين كوننا نتأثر بالماضي ونتحفز له، وشروعنا بتاريخ لم يصنع بعد.
أما التراث فمفهوم فيه يجتمع الزمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا كـ«وساطة مفتوحة النهاية غير تامة وغير مكتملة، تتكون من شبكة من المنظورات الفلسفية، بين توقع المستقبل وتلقي الماضي وتجربة الحاضر الحية، من دون أن تتحول إلى كلية شاملة يتطابق عندها عقل التاريخ وفاعليته» (من كتاب الوجود والزمان والسرد فلسفة بول ريكور) رافضا كلية التاريخ أو التاريخ الكلي، مؤكداً على أهمية تجريده من كليته، كي نعرف الماضي من خلال الحاضر وبالعكس. وعندها نتمكن من صناعة التاريخ الخاص.
وما دام التاريخ هو الماضي الذي يثيرنا، والحاضر الذي فيه نستجيب لتلك الإثارة، يغدو التاريخ بسجلاته ووثائقه عبارة عن مدونات كتبها مؤرخون لوقائع نقلوها من وجهة نظرهم الخاصة، ومن ثم ظلت هناك وجهات نظر أخرى يمكننا بها أن ننظر لتلك الوقائع نفسها.
ويعد القاص جمعة اللامي من أوائل القصاصين العراقيين الذين فتنهم التاريخ، وأهم واقعة ولَّدت لديه هذه الفتنة هي عاشوراء، الحدث التراجيدي الذي وثّق التاريخ الرسمي بعضا منه، واستكملت الذاكرة حفظ بعضه الآخر في شكل تاريخ شفاهي جماعي. وعلى الرغم من أن هذه الواقعة لفتت اهتمام قصاصين آخرين جايلوا جمعة اللامي؛ فإنه اختلف عنهم بانزياحه عن الخط الواقعي والرمزي، واتجاهه صوب التاريخ كهاجس سكنه إبداعيا، فانكشف لديه قصة تجريبية تبتغي خلخلة وثائقية ما دونه التاريخ العام عن هذه الواقعة، وقلب تمثيلها بالميتاـ تاريخية، التي هي في الغالب منطلق قصصه ومنتهاها.
وتعد قصة «اهتمامات عراقية» المنشورة ضمن كتاب «الكائنات» 2012 والمؤرخة في عام 1965 باكورة جمعة اللامي في كتابة القصة الميتاـ تاريخية. وفيها اتخذ من واقعة عاشوراء محورا لتأتي بعدها قصصه الأخرى، ناهلة من المنبع نفسه تجريبيا، سواء أكان التجريب موضوعيا، أم كان شكليا. ولصناعة التاريخ الخاص وسائل مختلفة، أساسها تمثيل التاريخ الذي تصفه ليندا هتشيون بـ(سياسة ما بعد حداثية). وأول الوسائل التي وظفها جمعة اللامي الميتاسرد كتجريب شكلي به أراد القاص خرق حدود الكتابة السردية، والانفتاح بها نصياً، مرة بالتداخل الأجناسي مع المسرحية المونودرامية، ومرات بالتناص امتصاصاً لمقطع شعري ومأثور قولي هنا، وتحويلاً أو اقتباساً لمقطع غنائي ومثل شعبي هناك.
ومعلوم أن البناء السردي الكلاسيكي يقوم على مركزة السارد في السيطرة على مسروداته، بينما تتحرر الشخصيات في البناء السردي الحداثي من قبضة السارد، لتسرد مسروداتها هي بصوتها مواجهة مصائرها بنفسها. ويختلف البناء الميتاسردي عن البنائين السابقين في أنه يقوم على العكس، حيث السارد والمسرود يتحكمان بالمؤلف، مشاكسة ومعاداة، أو ألفة ومصالحة. وإذا كان الميتاسرد تكنيكاً ما بعد حداثي يوطد الدور الإنتاجي للقارئ؛ فإنه أيضا تكنيك يعيد السارد إلى الماضي، ممارسا دور الحكاء كتبعة من تبعات النزعة الحكائية في السرد، حيث لا قوانين أو قوالب تفرض عليه وهو ما كانت قد عرفته المرويات السردية القديمة، كما عرفته بعض بواكير القصة العراقية، التي تأثرت بالسرد القديم، كما في بعض قصص الرؤيا لعطاء أمين، ثم في القصة الواقعية عند عبد الملك نوري وعبد الحق فاضل.
ولا خلاف أن تتضمن كتابات عدد من القصاصين والروائيين الغربيين بوادر الكتابة الميتاسردية، ومنهم لورنس سفيرن في روايته «ترسترام شاندي» المنشورة في القرن الثامن عشر، ثم تطور الميتاسرد بشكل قصدي مبتكر في القرن العشرين على يد نابكوف وجون فاولز وروايته «امرأة الملازم الأول الفرنسي» المنشورة عام 1969. ويتضح التجريب الميتاسردي في قصة «اهتمامات عراقية» أولا من العناوين الجانبية المرقمة والمنفصلة على التوالي/ 1( قراءة جديدة) 2 (الرؤوس والنهر) 3 (الفجيعة ـ الندم ـ البدء) والدالة على أن هناك أمرا عجيبا مقبلا والناكصة في الآن نفسه إلى الماضي البعيد.
قصة «اهتمامات عراقية» قصة ميتاـ تاريخية أفادت من السرد والميتاسرد في تمثيل واقعة عاشوراء قصصياً، جاعلة شخصية المؤلف الرامزة للمؤرخ في موضع الاتهام، معطية لشخصية الصوت الرامزة للتاريخ قيمة مركزية، شجباً لعمل المؤرخ
وثانيا من المتن استحضارا للذاكرة وما فيها من تاريخ شفوي عن بطل يتمظهر في رجلين الأول، الحسين والثاني الشبيه (الرجل الملتحي) الذي تأزم داخليا وهو يستعيد مشهد الذبح نستولوجيا، فانشطر إلى اثنين الصوت والمؤلف، محاوراً نفسه مونودراميا (لكنها ليست البداية، أنت تعيد تاريخا)
وما إقحام المؤلف نفسه في السرد كشخصية، سوى تجريب أراد به القاص النكاية بالسارد، الذي صار مفروضاً عليه أن يداخل سرده الأحادي الصوت بحوارية مونودرامية تسايره ثم تهيمن عليه في نهاية القصة، بيد أن السارد سيتمكن من قلب المعادلة، ليصير المؤلف نفسه تحت رحمة السارد العليم بدواخله مسترجعا ماضيه (الحكاية وما فيها أن السيد المؤلف يريد أن يكتب قصته، كان متأزما ولم يسكر البارحة كما تعود، ذهب قبل أيام إلى النجف ثم عاد وفي ذهنه بعض صور الموت والفجيعة، وردد أمام أمه أنه أصبح الآن مسيطرا على وعيه». وبالاسترجاع والاستبطان تتعزز ميتاـ تاريخية عاشوراء، لا بسبب الجمع بين السرد والمسرح حسب؛ بل لأن الشخصيتين الصوت والمؤلف صارتا ترمزان للتاريخ والمؤرخ، فالصوت رافض لعمل المؤلف، عارف بما أخفاه.
ويقترب التأزم النفسي من لحظة الانفراج، حين تتماهى شخصية البطل الحسين في شخصية الرجل الملتحي، ثم تصبح الشخصيتان واحدة، لكن بثلاثة رؤوس تتحاور في ما بينها، جامعة الماضي بالحاضر، ثم تتوحدان في مشهد درامي يستحضر طقس التطبير مع استشراف للمقبل الذي هو (الرجل الشرقي) في صورة الحسين (رجل شرقي الملامح ملتح علم في يسراه وسيف في يمناه وخلفه مجاميع من الناس العراة، يقبضون على السيوف بأيديهم وأسنانهم وينتظرون إشارة القائد الذي يبدو حزينا…. ويقول لهم أن أعوام الصحو لم تأت بعد). وبإقحام المؤلف نفسه مجددا في السرد تكون الميتاسردية قد حالت دون اقتراب القصة من الانفراج بمقاطع من قبيل (ملاحظة للقراء الذين لم يضجروا حتى الآن) التي هي وسيلة بها يستفز المؤلف قارئه، مخيبا أفق توقعه، محفزا فيه المشاركة في الحدث التاريخي، وهو ما يعزز الميتا ـ تاريخية التي هي مبتغى القصة ومرادها.
لكن السارد يرفض الاستسلام للمؤلف، فيشاكسه مستغورا دواخله (ها هو المؤلف قد أقبل بعد أن كان يراقبني ويراقبكم) كما سينقلب الصوت الذي هو التاريخ على المؤلف الذي هو المؤرخ، ناقما عليه أيضا متهما إياه بالجنون والخرف وأنه قتله حين جعله صوتا بلا اسم، كما أنه لم يسرد قصته «عاشوراء» كاملة بل جزأها، مشككا في عمله وصحة ما نقله وسجله، محرضا القراء عليه، قائلا: (جركم معه إلى حديث طويل يسميه قصة هه؟ فأنساكم بعضا من مشاغلكم اليومية.. ألا يستطيع أن يروي قصة مقتل الحسين كما رواها أبو مخنف رحمه الله؟ هو يضحك مني الآن وأنا أعرف لم يضحك.. هو يريد من خلال جنونه أن يطرح الحسين كشهيد.. أو هل صحيح أنه كتب عن الحسين؟ أنا أشك).
بهذا تكون قصة «اهتمامات عراقية» قصة ميتاـ تاريخية أفادت من السرد والميتاسرد في تمثيل واقعة عاشوراء قصصياً، جاعلة شخصية المؤلف الرامزة للمؤرخ في موضع الاتهام، معطية لشخصية الصوت الرامزة للتاريخ قيمة مركزية، شجباً لعمل المؤرخ، الذي غيّب كثيرا من تفاصيل واقعة عاشوراء، ولم يكشف عن جميع ما فيها من استبداد لاإنساني لم يعرف التاريخ له مثيلا. والسبب أن المؤرخ وثّق الحدث من الزاوية التي بها نظر بها إليه، ونسي وجهات نظر أخرى، لن يظفر بها سوى بالقصة الميتاـ تاريخية. وهذا هو المغزى الذي نجح القاص جمعة اللامي في إيصاله إلى قرائه. وإذا كانت عاشوراء هاجساً ميتا ـ تاريخيا أرشده إلى الاشتغال الميتاسردي، فإن ذاك الهاجس وهذا الاشتغال سيغدوان تجريباً يتوالى في قصصه ورواياته اللاحقة.
٭ كاتبة من العراق
الانحياز العقائدي في النقد خطأ كبير، وتضليل للأجيال، قرأت جميع روايات جمعة اللامي فلم استطع إكمال أي منها، ولست أدري لماذا يواصل الكتابة كاتب لا يستطيع التعبير عن أبسط معنى في كتاباته، ولا يستند إلا على ترديد ما يظنه يخدم فكرة مختلف عليها. هل يستطيع أي قارئ أن ينهي رواية جامدة كتمثال محنط لكي يدعي ناقد انه استطاع ان يوصل المغزى؟ ضعوا ضميراً في صدوركم، فمدح كاتب أخرس نوع من الترويج الفاشل، لهذه الأسباب ظل السيد جمعة يراوح في مكانه ولم يتقدم