تتعرّض المنطقة العربية، بما فيها من شعوب ولغات وفئات متعددة، لاضطرابات اجتماعية وسياسية شديدة العنف، تتراوح بين الحروب الإقليمية الكبرى، ذات البعد الإبادي لمجموعات بشرية بأكملها؛ وحتى العجز الشامل عن أداء الوظائف الاجتماعية الأساسية، الضرورية لاستمرار الكتل البشرية. نتحدث عن فشل في تأمين الحد الأدنى من الغذاء الضروري؛ وتسرّب واسع من التعليم؛ وغياب جزئي أو كلي للوجود الأمني المنظّم والمقونن، في الدول ذات الوزن الأكبر في المنطقة، مثل مصر وسوريا والعراق. هذا يعني أن الآثار والعواقب الاجتماعية والثقافية لكل هذه الاضطرابات ستظهر بشكل أكبر وأوضح على المدى الطويل، وستغيّر تصوراتنا عن بلداننا ونمطنا الحضاري برمّته.
وعلى الرغم من أن رصد وتوقّع التغيّرات المستقبلية بدقّة أمر متعذّر حالياً، إلا أن التعاطي مع حالة الخراب والاضطراب الشامل، تتطلّب بالتأكيد تطويراً في لغة الوصف والتفسير والنقد، التي نستخدمها في التعبير عن الوضع القائم، وإنتاجاً لموضوعات وميادين ومفاهيم جديدة، قد تساعد في تعيين أفضل للوقائع، والتعامل معها، على المستويين النظري والعملي. بالتأكيد ليس من الكافي القول إن هنالك ظالماً ومظلوماً؛ أو معسكراً يحوي قوى الشر، من هيمنة وقمع واستغلال، وآخر ليس فيه إلا ضحايا يقومون بردود أفعال، أو مغلوبين على أمرهم. يُعبّر أفراد كثيرون ومتعددون عن عدم اقتناعهم وتشككهم بمثل هذا النوع من المقولات، القائمة على تبسيط أيديولوجي مفرط. وقد تكون الوقائع العنيفة والمروّعة، من قتل وتهجير وتعذيب وقمع وكبت، التي عايشوها بكامل أجسادهم، هي الدافع الأساسي لذلك التشكك، إلا أنهم لا يستطيعون تطوير رفضهم إلى مستوى الخطاب البديل، أو المضاد.
من المفترض أن للخطاب منتجيه، وهؤلاء بالعادة يُسمُّون «النخبة» السياسية أو الثقافية، التي تعمل بشكل احترافي على صياغة الأفكار والمفاهيم والمقولات، وتعميمها، عبر وسائط متعددة، وكذلك مساءلة أدوات التفكير، وطرق إنتاج المعنى القائمة، في زمن الأزمات الكبرى. إلا أنه من الصعب الحديث عن فئة أو فئات تقوم بمثل هذه الوظائف في الفضاء الثقافي الناطق بالعربية، على الأغلب سنرصد قول وفعل «نخب» قادرة على نشر أفكارها بشكل دوري أو شبه دوري، ومرتبطة بشبكات معيّنة لصناعة الثقافة الجماهيرية والأكاديمية، لا تخرج عن ترديد وتأكيد المعاني المألوفة، أو إعادة استنساخ الجماليات والقيم ذاتها، وكأنها لا تعيش وسط التغيّرات الدراماتيكية، التي تشهدها مجتمعاتها، بل أحياناً تمارس نوعاً من العنف المعنوي والرمزي، لوصم أي تعبير مخالف، بتهم تتراوح بين العمالة والجهل والمرض النفسي.
هذا الفعل، الذي يمكن وصفه بـ»التثبيت القسري للدلالة» يطرح أسئلة كثيرة عن تلك «النخب» نفسها، ومنها مثلاً تصوراتها عن مشاريعها الخاصة: هل لديها حقاً منظور واضح لما تريده وتسعى إليه، في الشروط التي نعيشها حالياً؟ أم أن التكرار نفسه يصبح الغاية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا؟
لماذا يكررّون؟
لا يمكن اعتبار التكرار مجرد إعادة تأكيد حضور حقيقة أو مفهوم ثابت، ففي كل مرة نكرر فيها قولاً معيناً، ننتج سياقاً جديداً لمعانيه، ضمن الأوضاع المتغيّرة التي نعيشها. في حالة «النخب» العربية، التي تكرر مقولات من عهد التحرر الوطني، أو صيغ معاداة الإمبريالية، أو الإنشاء الدارج في جانب من الناشطية الغربية، يبدو الأكثر لفتاً للانتباه هو إصرارها على التكرار، رغم تعارض السياقات: لم تعد هنالك دول وقوى سياسية وفئات اجتماعية، تحمل مشاريع يمكن أن توصف بـ»التحررية» في المنطقة، أياً كان الاتفاق أو الاختلاف معها؛ كما لا يمكن إسقاط الفعل المؤسساتي والقانوني للناشطية الغربية على السياق العربي، الذي يتسم باضمحلال شديد في بناه المؤسساتية والقانونية. قد يعني هذا أن تكرار الصيغ التحررية والناشطية يسعى إلى الإخفاء أكثر من البيان، أي أن تلك «النخب» لا تسعى فعلياً إلى مناصرة مشاريع تؤمن بها في مجتمعاتها، وتعتبر نفسها جزءاً عضوياً منها، بل إلى التشويش على واقع غياب تلك المشاريع، عبر تكرار مُكثّف ومُثقّل لمفاهيم وقيم وجماليات، مقتطعة من «عالم آخر» بشكل حرفي.
يصعب مثلاً أن نتكلّم عن استقلال وطني، أو حقوق إنسان، أو تمكين فئات مهمّشة، أو مواجهة الاستغلال والإفقار، أو انتقال ديمقراطي، ونحن نؤيّد، أو نسكت على فعل قوى وأنظمة، لا تأبه بأي من هذا، بل إن أدبياتها وتصريحاتها تشير إلى أمور مخالفة تماماً. يبدو الموضوع أشبه بعملية تزوير متعمّدة: مهمة قيمنا ومفاهيمنا وتفسيراتنا، هي بالضبط أن لا نقول ما ندركه ونراه، ويدركه ويراه كثيرون غيرنا.
السؤال الأساسي هنا قد يكون: لماذا التزوير؟ أي لماذا لا تمتلك تلك «النخبة» الشجاعة السياسية والأخلاقية لتأييد ما تخفيه، كما هو، وبكل ما يحويه من منظورات وممارسات، أي أن تتخلى عن قيم التحرر الكلاسيكية لمصلحة منظور صريح، قائم على التشدد الديني والقومي، والعداء الطائفي، والأحادية الهوياتية، وقمع التعددية والاختلاف، ما دامت تجد نوعاً من العدالة في أفعال وخطابات تحوي كل هذا، أو على الأقل توجيه نقد جذري لكل ما هو «تحرري» باعتبار أنه ليس أكثر من قيم مفروضة على كتل بشرية، «تقاوم» بإنتاج أنماطها الخاصة من القيم.
ليس السؤال السابق تهكمياً، إذ يمكن بالفعل لنخبة جادة أن تنتج مفاهيم تستحق النقاش والتأمّل، إذا اندمجت بشكل فعلي في مشروع سياسي واجتماعي ما، أياً كان، إلا أن المشكلة قد لا تكون فعلاً في قدرات النخب الناطقة بالعربية، بل في الدور المسموح لها بلعبه ضمن المشاريع القائمة حالياً، التي يبدو أن عدم الاندماج، والخطاب المزدوج والمنافق، هو ما تطلبه بالضبط. هنالك ما يُقال لجمهور من المؤيدين العقائديين، يبقى محدوداً بحدود العقيدة؛ خارج تلك الحدود يجب أن توجد نخب، لا تبدو عقائدية، تخفي أو تشوّش أو تحوّر، عبر التكرار الخاوي من الدلالة، الذي يشير إلى «التاريخ» أو «العدالة» أو «الأخلاق» أو أي تجريد متعالٍ آخر، كي لا يشير إلى الوقائع والقوى والبنى والخطابات المتعيّنة. التكرار هنا يبدو أقرب لأحد أشكاله العتيقة: التعاويذ، لكن دون استخداماتها السحرية والروحانية التقليدية، وإنما باستخدام سياسي معاصر، قد لا يكون وصفه بـ»الاحتيال الأيديولوجي» ظالماً.
تناقض أساسي؟
رغم هذا فإن اتهام «النخبة العربية» بأنها متواطئة أو مأجورة ليس أكثر من اتهام سياسي لا يمكن إثباته، ونوع من التفتيش في الضمائر، والأجدى البحث عن مفاهيم داخلية في أيديولوجياتها، تساهم في تفسير أدائها ومواقفها، وقد يكون مفهوم «التناقض الأساسي» مفتاحاً للتفسير. ينبني هذا المفهوم، في أبسط أشكاله السياسية، على افتراض وجود صراع مركزي وجوهري، يمكن على أساسه تصنيف الوقائع والقوى إلى مجموعتين متناقضتين، ومن ثم الالتحاق، أو التحالف، مع القوى الأساسية في إحدى هاتين المجموعتين، والتجاوز المرحلي لأي تناقض هامشي معها. هذا يعني أن قضايا مثل الحريات والتعددية، بل حتى استمرار الحياة، هي جانب من تناقضات هامشية، مع المعسكر الذي انحاز إليه جانب من النخب العربية، والأهم بالنسبة له التركيز على التناقض الأساسي، والعدو المركزي، حتى لو أدى هذا إلى السكوت عن ممارسات قمعية أو متوحّشة، والأغرب أنها فاشلة.
يمكن توجيه أشكال متعددة من النقد لفكرة «التناقض الأساسي» هذه، وتقسيم العالم والوجود إلى معسكرين، مصنّفان قيمياً على أنهما الحق والباطل، أو الهوية وأعداؤها. منها أنها قائمة على تصوّر تاريخي أو بنيوي لا براهين مقنعة عليه، ويعجز عن تفسير مجموعة كبيرة من الوقائع، فضلاً عن أنه لا يلحظ تعددية الفاعلين، والتركيبات المعقدة التي ينتجونها، نتيجة تلاقي وتناقض مصالحهم ورؤاهم، والتي يبدو تلخيصها في تناقض ثنائي بين معسكرين، يفضي إلى «تحرر» تاريخي ما، مجرّد سذاجة.
جمهرة الألم
بالعودة إلى الأفراد الكثيرين، الذين اختبروا الخراب الاجتماعي بكامل أجسادهم، وليس فقط بلغاتهم وعقولهم، ما يدفعهم إلى الرفض، الفوضوي أحياناً، لكثير من الدلالات الراسخة، فإن تجاوز مفهوم «التناقض الأساسي» قد يساهم في الاستماع إليهم أكثر: توجد جمهرة من القضايا والمطالب والمظالم، بعد كل ما شهدته المنطقة، لا يمكن بترها، وتطهير ثقافتنا المعاصرة منها، بدعوى انها مجرّد جهل بالقضية المركزية للتناقض الأساسي، أو نتيجة حقد ومرض في نفوس الناس. قد يمكن إنتاج ائتلاف ما من تلك الجمهرة، لكن هذا يحتاج في جانب منه إلى تجاوز لغة التعاويذ، التي يكررها جانب أساسي من «النخب العربية» والتي لا تؤدي إلا إلى مزيد من القمع، على المستوى الرمزي، نحو اعتراف فعلي بتعددية المواقع والمطالب والرؤى والفئات، وأحياناً تعارضها.
لا يمكن بسهولة تحديد الأساس الذي يمكن أن يبنى عليه مثل ذلك الائتلاف، كي يكون «تحررياً» حقاً، قد يكون السلام، أو المطالبة باستمرار الحياة وترميم المجتمعات، أو البحث عن أشكال تنظيمية وسياسية مبتكرة، للمقاومة ومواجهة الظروف الصعبة. الأمر يحتاج جدلاً، مبنيّاً على أسس تواصلية فعلية، لكن بكل الأحوال يجب أن لا يموت الناس، أو يُهجّروا ويعانوا، لأجل «تناقض أساسي» لم يشاركوا في تعيينه، ثم عليهم أن يدفعوا أثمانه.
كاتب سوري