عاشت الولايات المتحدة حالة استنفار أكبر من الذي تعيشه إسرائيل ذاتها. الأجهزة الأمنية الأمريكية، وبرعاية سياسية، تجرأت على ممارسة مستوى متقدم من القمع والاعتقال العنيف بحق طلاب الجامعات المحتجين على حرب غزة.
عدد الطلاب المعتقلين وطرق اعتقالهم تُذكّر بجمهوريات الموز وديكتاتوريات العالم الثالث التي أمضت الولايات المتحدة عقودا تُلقّنهم الدروس في كيفية حماية الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي.
عنف الشرطة في الجامعات تجاوز عنفها في اقتحام أنصار الرئيس ترامب مبنى الكونغرس يوم تولي بايدن الرئاسة.
لو أن الطلاب المعتصمين في الجامعات الأمريكية هذه الأيام شكّلوا خطرا على البيت الأبيض ذاته، لتعاملت معهم الشرطة بعنف أقل.
كل هذا بسبب إسرائيل وحرب تجري بعيدا عن الأرض الأمريكية ستة آلاف ميل.
كل هذا يفرض التساؤل: مَن الذي يقود الآخر.. وهل أمريكا صاحبة الفضل على إسرائيل أم العكس؟
أنا من الذين يؤمنون بوجود هذه الصفقة المربحة للطرفين: المال اليهودي والإسرائيلي يحافظ على شريان الدورة السياسية والاقتصادية في أمريكا يتدفق، وأمريكا تحافظ على أمن إسرائيل حتى لو كلفها ذلك خوض حروب بالوكالة في الشرق الأوسط.
الأحرار والعبيد
الأحرار يصنعون التاريخ والعبيد يصفقون. هذا حالنا مع اعتصامات طلاب الجامعات في الدول الغربية.
صحوة الضمير التي تشهدها المجتمعات الغربية هائلة واستثنائية. تبعث على الفخر والأمل والاطمئنان بأن الإنسانية لا يزال بها شيء من الخير. ولكنها، في المقابل، صحوة تبعث على الشعور بالعار إذا كان المتابع معنيا بهذه الوثبة وينتمي إلى هذه المنطقة المسماة العالم العربي أو الإسلامي.
وفق أرقام غير رسمية، يوجد في العالم العربي ما لا يقل عن 210 جامعات كبرى معترف بها.
لكن حالة الذعر التي ذكر الإعلام الإسرائيلي أنها أصابت بنيامين نتنياهو جراء المعلومات عن مذكرات الاعتقال دليل على جدوى محكمة الجنايات الدولية
ويوجد في العالم الإسلامي نحو 400 جامعة، دون حسبان غير المنخرطة في «اتحاد جامعات العالم الإسلامي».
كم طالب وأستاذ في هذه الجامعات خرج للاحتجاج على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة؟ وإذا كان هناك من خرج، فكم دام أطول اعتصام أو تظاهرة؟
لا أريد إجابات. نحن العبيد وشبان وشابات الجامعات الغربية أحرار. لن يستطيع العبد تحرير غزة إذا كان في الأصل عاجزا عن تحرير نفسه لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
القول إن الحكومات تمنع التظاهرات الحرة خوفا من أن تنقلب عليها عذر أقبح من ذنب.
نفض الغبار عن «داعش»
أنصح بعدم السخرية من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة وأنا أحدهم. إيماني هذا يجعلني لا أستبعد أن شيئا خطيرا ربما يُطبخ في الخفاء.. عملية إرهابية كبرى في عاصمة غربية مثلا تحرف الأنظار عن غزة وتنقذ إسرائيل من فخها التاريخي.
إذا تعاظمت الاحتجاجات الطلابية أكثر واتسعت عبر العالم الغربي، قد يضطر المتضررون منها إلى استعمال سلاح «القضية الثانوية» الذي كتبت عنه هنا الأسبوع الماضي.
ضمن هذه المخاوف يجب وضع تحذير دوائر أمنية وإعلامية غربية عن احتمال عودة «داعش» والقاعدة لارتكاب أعمال إرهابية في الغرب مستغلَّيْن الإبادة في غزة.
خلال الأسبوع الماضي، ومع تنامي الاحتجاجات الطلابية أوردت صحف أمريكية وأوروبية تحذيرات جهات أمنية من خطر عملية ربما يُعدُّ لها «داعش».
التحذير المسبق والتحضير النفسي أسلوبان ضروريان في عالم الاستخبارات المظلم. يلجأون إليه، فإذا وقع ما حذَّروا منه يقولون حذرناكم، كما فعلوا مع روسيا في مركز التسوق «كروكوس» بموسكو قبل شهرين. وإذا لم يحدث شيء ففي العالم مصائب أكبر من مجرد إنذار استخباراتي كاذب.
إرث «داعش» صدقة جارية. يستطيع أي أحد تجربته على الأبرياء في أيّ مكان، ثم إصدار بيان تبني. عندما يحدث ذلك ويصرف الأنظار عن غزة وثورة الجامعات، فتّش عن المستفيد من الجريمة.
عُراة بلا أمريكا
قادة «الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، وضمنهم، قادة «أكثر جيوش العالم أخلاقا» في ذعر. مَن كان يصدّق أن مجرد معلومات غير موثوقة عن مذكرات اعتقال دولية يمكن أن تلحق بهم كل هذا الارتباك والخوف؟
بهذا الحديث عن مذكرات الاعتقال المحتملة تساهم محكمة الجنايات الدولية في تعرية إسرائيل على طريقتها بعد أن أدت غزة المهمة الأكبر.
سرعة الاستنجاد بالإدارة الأمريكية والكونغرس لطلب الحماية من المحكمة الجنائية الدولية تذكير آخر بأن إسرائيل عارية الظهر من دون أمريكا.
ستكون المذكرات المرتقبة حالة قضائية وسياسية ونفسية. وستكون دليلا قويا على هشاشة هذا العدو الذي لم يتورع قادته عن قتل من شاؤوا متى شاؤوا، وتباهوا بأنهم بصدد مواجهة حيوانات بشرية في غزة يجب البدء بقطع الماء والكهرباء والوقود عنها قبل إبادتها.
من المفروض أن المسؤول الذي يمتلك جرأة الإدلاء بمثل هذا الوعيد يمتلك في المقابل شجاعة تحمّل تبعاته، لا أن يكلّف آخرين بالدفاع عنه والزعم أنه لم يقصد وأنه أسيء فهمه.
هناك احتمال ضئيل جدا أن تجد مذكرات الاعتقال، إذا ما صدرت، طريقها إلى التنفيذ لأسباب عدّة أبرزها أن الطرف المطلوب إسرائيل. عامل الزمن والإجراءات القضائية المعقّدة والضغوط الأمريكية الشديدة ودور المال كلها عوامل تحول دون تفعيل المذكرات وحتى قتلها في المهد.
لا أحد يجب أن يُفاجَأ إذا ما وصل ذلك اليوم. لكن حالة الذعر التي ذكر الإعلام الإسرائيلي أنها أصابت بنيامين نتنياهو جراء المعلومات عن مذكرات الاعتقال دليل على جدوى محكمة الجنايات الدولية، ولو رمزيا وأخلاقيا إذا لم تتحقق المحاكمة الفعلية والإدانة.
في غياب عالم مثالي، يكفيها أنها ستجعلهم منبوذين وتعرقل حياتهم وتُفقدهم جزءا من حرية الحركة في العالم، وتجبرهم على وضع خطط وحسابات دقيقة قبل أيّ حركة.
كاتب صحافي جزائري