جمهورية يوليو العتيدة والقضاء على استقلال الجامعة المصرية

حجم الخط
12

في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر 2020 مر نصف قرن على وفاة الرئيس جمال عبد الناصر الذي ما تزال «جمهورية يوليو» التي أسسها بين 1952 ـ 1954 وحكمها حتى وفاته في 1970 حاضرة بقوة في الواقع المصري فيما خص فهمها للهوية الوطنية ولمرتكزات العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطن.
في جمهورية يوليو، تمكنت نخب الحكم من احتكار حق الحديث باسم الوطنية المصرية والاستئثار بتعريف مضامينها وتعميم تعريفها على المجتمع والمواطن عبر خليط من أدوات الإقناع والقسر. نخب حكم يوليو، وفي موقع القلب منها المؤسسة العسكرية التي انتمى إليها عبد الناصر وغيره من الضباط الأحرار الذين أزاحوا النظام الملكي في 1952 وأنهوا الاستعمار البريطاني في 1954 والمؤسسة الأمنية ـ الاستخباراتية التي جددت الجمهورية تنظيمها ووسعت اختصاصاتها لكي تضطلع بمهام الضبط الاجتماعي (أي السيطرة على المجتمع وإخضاع المواطن للرقابة الدائمة) والجهاز الحكومي ـ البيروقراطي الذي أسهم موظفوه وتكنوقراطيوه ووزراؤه أيضا في الضبط الاجتماعي وقدموا خدمات التعليم والرعاية وإدارة الإنتاج الاقتصادي إن منفردين (في سنوات الناصرية بين 1954 و1970) أو بالشراكة مع المصالح الخاصة (منذ سبعينيات القرن العشرين) استبعدت على التوالي من الحياة السياسية والفضاء العام ولكي لا تنازع في نهجها الاحتكاري ممثلي الملكية المتهالكة والأحزاب الوطنية التي هيمنت على الحقبة شبه الدستورية وشبه الليبرالية وشبه الحداثية بين 1923 و1952 وفي طليعتها حزب الوفد والحركات الشيوعية المعبرة عن مصالح الطبقة العمالية الحديثة التي تنامت أهميتها المجتمعية في ذات الحقبة والحركات الإسلاموية التي قدمت نموذجا مضادا لليبرالية والحداثة مقومه الوحيد إخضاع المجتمع والمواطن لسطوة فهم مستبد ورجعي للدين.
حرمت نخب حكم يوليو كافة هذه القوى من حق الحديث باسم الوطنية المصرية، ثم قسرت مضامين الأخيرة على الاستقلال والتحرر الوطني والعدالة الاجتماعية دون هدفي الديمقراطية والحرية اللذين صاغا أيضا وجدان الحركة الوطنية منذ بدايات القرن العشرين.
وبينما أضافت نخب حكم يوليو التوجه العروبي إلى مضامين الوطنية المصرية في سنوات الناصرية، عادت وهمشته ومعه مسألة العدالة الاجتماعية منذ سبعينيات القرن العشرين مثلما استبدلت شراكة الدولة والمصالح الخاصة والتعددية السياسية المقيدة باحتكار الجهاز الحكومي ـ البيروقراطي للإنتاج الاقتصادي والنشاط الخدمي وبالتنظيم السياسي الواحد. غير أن نخب الحكم لم تتخل أبدا وإلى يومنا هذا عن نهجها الاحتكاري وسيطرتها الأحادية على الدولة واستبعادها للقوى الأخرى إن من المنافسة الفعلية على السلطة أو من الاقتراب من مواقع النفوذ في الجهاز الحكومي ـ البيروقراطي.

لم تتخل نخب حكم يوليو أبدا عن توظيفها لأدوات الضبط الاجتماعي للسيطرة على المجتمع في قطاعاته الحيوية كالجامعات والنقابات ودور النشر والصحف ووسائل الإعلام والتنظيمات الأهلية ولإخضاع المواطنات والمواطنين للرقابة

كذلك لم تتخل نخب حكم يوليو أبدا عن توظيفها لأدوات الضبط الاجتماعي للسيطرة على المجتمع في قطاعاته الحيوية كالجامعات والنقابات ودور النشر والصحف ووسائل الإعلام والتنظيمات الأهلية ولإخضاع المواطنات والمواطنين للرقابة الدائمة التي تلزمهم الابتعاد عن السياسة والفضاء العام كفاعلين أحرار. ولم تكن أدوات الضبط الاجتماعي تلك مقتصرة لا على تمرير النصوص الدستورية والقانونية المقيدة لحريات المجتمع والمواطن ولا على تهديد غير الممتثلين لإرادة النخب بالقمع وإنزال العقاب بهم حال تواصل المقاومة، بل امتدت في جمهورية يوليو التي أسسها جمال عبد الناصر إلى توظيف شغل المواقع في الجهاز الحكومي ـ البيروقراطي وتوزيع الموارد والعوائد الاقتصادية والحصول على الخدمات الأساسية وشيء من الصياغات الإيديولوجية (القومية العربية والوطنية المصرية ووعود التحديث والأمن والاستقرار والرخاء) لإقناع الناس برجاحة توجهات وسياسات وقرارات نخب الحكم وتأمين ولائهم طوعا وضمان الرضاء العام.
بعبارة أخرى، حضر مكون الإقناع وتأمين الولاء بجانب مكون القسر والقمع في جعبة أدوات الضبط الاجتماعي لجمهورية يوليو وتفاوت الوزن النسبي للمكونين طوال العقود الواصلة بين 1954 و2020 من غلبة الإقناع في الفترة من 1954 إلى 1967 بسبب كاريزما جمال عبد الناصر وحالة الرضاء العام عن إنجازات التحرر الوطني (اتفاقية الجلاء 1954 والإسهام في تأسيس حركة عدم الانحياز وتأميم قناة السويس 1956 ومساعي الوحدة العربية ودعم مقاومة الاستعمار في الجزائر واليمن وبناء السد العالي في الستينيات) وسياسات العدالة الاجتماعية (الإصلاح الزراعي والتأميمات والتعيين الشامل وغيرها) وغلبة التأييد الشعبي لأنور السادات في أعقاب حرب أكتوبر 1973 ولحسني مبارك خلال فترته الرئاسية الأولى 1981 ـ 1987 إلى غلبة القسر وتراجع الرضاء العام في سنوات السادات الأخيرة 1978 ـ 1981 وسنوات مبارك الأخيرة 2005 ـ 2011.
ومن بين قطاعات المجتمع الحيوية التي اتجهت إليها جمهورية يوليو منذ بداياتها بأدوات الضبط الاجتماعي ولم تتراجع إلى اليوم عن إحكام السيطرة عليها كانت الجامعة المصرية. الجامعة التي أنشأت كجامعة أهلية في أوائل القرن العشرين (1908) وتحولت إلى جامعة عامة حين انتصف عقده الثاني (1925) وصان استقلالها عن الجهاز الحكومي ـ البيروقراطي في منتصف الثلاثينيات قانون (القانون رقم 96 لسنة 1935) ظل منظما لأحوالها حتى انتزعت حركة الضباط الأحرار السلطة (1952)؛ هذه الجامعة أخضعت قسرا لإرادة نخب حكم جمهورية يوليو عبر حزمة من القوانين التي عصفت بالاستقلال الجامعي والحريات الأكاديمية كان أولها قانون «لجان التطهير» (القانون رقم 128 لسنة 1953) التي تشكلت لإقصاء أعضاء هيئات التدريس إن المناصرين للديمقراطية والحرية أو المتعاطفين مع الملكية المتهالكة وأطولها عمرا قانون تنظيم الجامعات الصادر في 1972 (القانون رقم 49 لسنة 1972) والنافذ بعديد التعديلات المقيدة لاستقلال الجامعة إلى يومنا هذا.
بين خمسينيات القرن العشرين وخواتيم العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، اصطنعت جمهورية يوليو من الجامعة المصرية مؤسسة تابعة ألحقت بالجهاز الحكومي ـ البيروقراطي ومن أعضاء هيئات التدريس موظفين حكوميين وأعطت لرأس السلطة التنفيذية (رئيس الوزراء حين كان عبد الناصر رئيسا للوزراء ثم رئيس الجمهورية منذ أن صار عبد الناصر رئيسا للجمهورية) صلاحية تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات، باستثناء الفترة الزمنية القصيرة الواقعة بين صيف 2012 وصيف 2014 التي طبقت بها قاعدة انتخاب الرؤساء والعمداء لتضمن للجامعة شيئا من الاستقلالية عن الحكم (أقرت قاعدة الانتخاب وفقا للقانون رقم 84 لسنة 2012 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 49 لسنة 1972 وألغيت قاعدة الانتخاب وفقا للقانون رقم 52 لسنة 2014 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 49 لسنة 1972).
بين خمسينيات القرن العشرين وخواتيم العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، لم تتوقف جمهورية يوليو عن التدخل القسري في شؤون الجامعة لفصل بعض أعضاء هيئات التدريس المناصرين للديمقراطية والحرية أو المعارضين لتوجهات وسياسات نخب الحكم ولم تكف عن توظيف بقية أدوات الضبط الاجتماعي ذات الطبيعة القسرية من إدخال الأمن إلى الحرم الجامعي إلى فرض الرقابة الأمنية على قاعات الدرس وعمليات البحث العلمي.
كذلك وظفت جمهورية يوليو في مسعاها للسيطرة على الجامعة أدوات الإقناع والتأمين الطوعي لولاء أعضاء هيئات التدريس بكثافة، من التحكم في العوائد المهنية والاقتصادية والاجتماعية التي يحصلون عليها عبر قرارات الترقيات والمكافآت والمنح الجامعية إلى تحديد هوية الأساتذة المعارين إلى جامعات الدول العربية المصدرة للنفط. ولم تغب، خاصة في سنوات الناصرية بين 1954 و1967، محاولات نشر الصياغات الإيديولوجية التي تبنتها نخب الحكم داخل الحرم الجامعي واستقطاب هيئات التدريس لتأييدها تحت يافطة «الموقف الوطني السليم» ومن ثم القضاء الفعلي على طلب استقلال الجامعة والحرية الأكاديمية بتجريده من دعاته الأصليين (الأساتذة).

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالله المصري:

    سألوا توفيق الحكيم عن افضل مكان لتمثال جمال عبدالناصر بعد موته فقال تل ابيب
    لانها افضل بلد استفادت منه
    و لو درست السادات و مبارك و السيسي ستجد افضل مكان لتماثيلهم تل ابيب ايضا
    الوحيد الذي اجبر اسرائيل على وقف الحرب على غزة هو مرسي رحمة الله عليه
    فاطلقت اسرائيل خنازيرها عليه لتخطفه و تقتله و تقتل ابنه و ترمي الاخر في السجن رحمة الله على كل الشهداء و يا رب حرر جميع الاسرى

  2. يقول بن تاشفين:

    لا صوت يعلو فوق صوت المعركة … وأي معركة … سيف مصلت على كل معارض .. تلك كانت البداية المخزية لمرحلة لم تنتهي بعد.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية