جميل بثينة العاقل باللغة

قيل عن جميل بن معمر العذري من الأقوال ما جعلته مسلوب اللبّ مشتت الذهن مجنونا بعشق بثينة، فجعلتنا تلكم الأقوال بين موقفين متقابلين: من يشفق على عقله السليب ومن يعلي نصّه الغزلي العجيب. إن كنت نصّيا كنت إزاء صناعة من الشعر راقية، وإن كنت بشريّا كنت إزاء شخص يثير الشفقة، وإن جمعت المعطيين: النصّ والشخص ما اجتمعا لك بسهولة.
إنّ اللسانيّات العرفانية التي تؤمن بأنّ الأقوال هي تصوّرات لا تنفصل الدلالة فيها عن معالجاتها الذهنية، ولا عن خارجها الثقافي الواسع، ولذلك سوف نعود من بوّابة بعض الأقوال إلى تصوّراته ونفحص من خلاله عن ذهنه معالجا لأقواله ومتفاعلا مع كونه الشعري والثقافي المحيط. وسأكتفي في هذا المقال ببيت يتيم هو طالع رائيته التي يدعو فيها مخاطبين وهميّين إلى زيارة بثينة وفي الطالع يقول: (زُورَا بُثَيْنَةَ فَالحَبِيبُ مَزُورُ // إن الزِّيَارَةَ للمُحِبِّ يَسِيرُ).
وقد يقدّم لهذه الرائيّة بنصّ نثري يشرح لنا السياق التاريخي الذي قيلت فيه القصيدة، فيُزعم أن زوج بثينة شكا إلمام جميل بها وزيارته لها، إلى أبيها وأخيها وأنهما هددا أباه وقبيلته بأنّه إن عاد إلى زياراته انتقموا منه ومن الأسرة والأهل جميعا. فاعترضا عليه ولما صارت الزيارة محالا طلب من أبني عمّه زيارتها. ومن شأن هذا «النصّ الطفيلي» أن يبلبل قراءة القصيدة لأنّه سيوجّهنا إلى الوجهة التي حدّدها. غير أنّنا لن نعتمد هذا الخبر في قراءة البيت، ولا القصيدة، لأنّ هذه النصوص ولدت بعد تلكم القصائد، وهي تدّعي أن الأشعار قيلت في سياقات تاريخية، وفي وضعيّات بعينها، وهذا ادّعاء كبير ليس هذا مجال الخوض فيه. صحيح أن مناسبة النصّ مهمّة في بناء السياق الذي قيل فيه القول، لكن ينبغي أن تكون المناسبة فعليّة، إن كانت مقترنة فعلا بحدث تاريخي تشهد عليه الآثار والكتب. فبعض المدحيات التي قالها المتنبي في سيف الدولة، أو غيره يمكن أن تضيء فيها الأحداث التاريخية جوانب من النصّ، لكن لا يحتاج شعر غزلي معين أسبابا موضوعيّة تعلّل قوله وتفسّره.
يتجه الخطاب في البيت إلى مثنّى، والمثنى عادة شعريّة طلليّة مألوفة يكون فيها الشاعر ثالث رفيقين يأمرهما بالوقوف على أطلال حبيبة ظاعنة، بلا عنوان، ولم تترك وراءها غير رماد وبَعْرِ أرْام؛ المثنى هو صوت يريد أن يكون شاهدا ومساعدا على تحمّل لحظة فراق فارقة قدرها أن تكون أبديّة. لكنّ المثنى في قصيدة جميل شكل واحد، لكنّه مختلف عن مثنّى الأطلال، وسنعتبره مبدئيّا ذا وظيفة مختلفة، فالمثنى المأمور ليس مطلوبا منه الوقوف، بل الحركة والرحلة في اتجاه امرأة معلومة المقرّ. إنّها محاورة للشعر من خلال المثنّى، لكنّها محاورة لا تسقط السنة بل تعيد بناءها في سياق شعريّ جديد. محاورة الشاعر للسنة داخل النصّ ليست غريبة عن الشعراء، فأبو نوّاس فعل ذلك ساخرا من الواقف على الطلل في قوله (عاج الشقيّ على رسم يسائله // وعجت أسأل عن خمّارة البلد). ولم يسخر جميل، بل سخّر المثنّى وطوّعه في سياق آخر مختلف. عقل الشاعر المحاور هو عقل يستوعب القديم ويحاول أن يبني منه تصوّرا مفارقا: هو يعالج الشعر، لكن بمنظار من لديه رؤية فذّة. رفيقا الشاعر بديلان منه زائرا.. ونحن لا نريد أن نذهب في سياق البدل لامتناع الزيارة فمن الممكن أن يكون ذلك طلبا لكثرة الزيارة لأنّ الحبيب يستحقها، مثلما تصبح الزيارة رمزا إذا ما كان المزور رمزا.

لا يمكن أن يوجد حبّ، وليس بين الأحبّة زيارة هذا بديهي لأنّه مبدأ مؤسّس للعلاقة العشقيّة؛ لكنّ القوة الاجتماعية القاهرة هي التي لا تؤمن بهذا القياس الموجد للحبّ.

في البيت أيضا عقل شعريّ فذّ يبرز في بناء البيت بضرب من القياس المنطقيّ: ذلك أن طلب الزيارة، زيارة بثينة، قد قدّم بعلّتين الأولى في قوله: (زورا بثينة // فالحبيب يزار) والثانية في قوله (زورا بثينة// أن الزيارة للمحبّ يسير). لعبت العلة في النصّ دور الرابط وعضدته أدوات الربط بالوصل (فاء السبب) والربط بالفصل (إنّ…). الترابط Cohesion مفهوم أساسي في تحليل الخطاب، ويعني أن جمله مترابطة في ما بينها وهي تعمل معا كي تخلق للقارئ معنى وبفضل الترابط يمكن للقارئ أن يجمّع معنى النصّ ودونه يكون ذلك المعنى أشتاتا. بين الجملة الفعلية الأمرية (زُورا) والإسمية الإخبارية في العلتين (الحبيب يزار، إن الزيارة..) ترابط بين الأمر وما يعلّله؛ لكنّ البنية السببيّة ليست بنية ثنائيّة من نوع ‹زورا بثينة لأنّي أحبّ أخبارها» بل إن العلاقة بين الفعل وسببه مبنيّة باللغة على ذكر وإضمار: الذكر هو ما يقرأ في سطح اللغة والإضمار هو ما تخفيه العلاقة الأصلية السببية من قياس منطقي مبنيّ على مقدّمة كبرى ومقدّمة صغرى ونتيجة على طراز المثال التقليدي (كلّ إنسان فانٍ، سقراط إنسان، سقراط فانٍ). ونحن نجد في العلاقة بين (زورا بثينة والحبيب يزار) تلعّبا مقصودا في هذه البنية المنطقية بتشويش ترتيبها، وبإسقاط مقدمة من مقدّمتيها والقراءة جعلت لإعادة البنا؛ لذلك يمكن أن نعيد ترتيبها كالتالي: (كل حبيب يزار) بما هو مقدّمة كبرى و (زورا بثينة) بما هي نتيجة، فما على القارئ المتشبّع بهذه البنية المنطقية، إلاّ أن يتمّ المقدّمة الصغرى وهي واضحة يمكن أن تصاغ كالتالي (بثينة حبيبة) لتكتمل بنية القياس المنطقي كالتالي (كل حبيب يزار، بثينة حبيبة، بثينة تزار: فزوراها). التلعّب الذي حدث في البنية المنطقية بواسطة البنية النحوية أو التركيبية، يكمن في ضرب من التقديم والتأخير لا يظهر لنا إلاّ باستحضار البنية القياسية المنطقية الأصلية، لكنّ نتيجة القياس المنطقي المثالي (سقراط فان…) مسلّم بها بحكم دورانها على حقيقة عامّة وذلك التعميم والتسليم لا يتوفّران في نتيجة قياس الشاعر (بثينة تزار) الذي لا يؤمن به إلاّ العشّاق، أو ما كان في فلكهم؛ هو قياس مقدود على مقام فئة معيّنة وهو من الممكن أن يعارض الفئات الاجتماعية أو الثقافية الأخرى وتعارضه وتصدّه.
لا يمكن أن يوجد حبّ، وليس بين الأحبّة زيارة هذا بديهي لأنّه مبدأ مؤسّس للعلاقة العشقيّة؛ لكنّ القوة الاجتماعية القاهرة هي التي لا تؤمن بهذا القياس الموجد للحبّ. إن مُنع الطرفان من الزيارة فينبغي ألاّ تبطل الزيارة من أصلها، فبدلا منها يمكن أن توجد الرسالة ويوجد الرسول.. لكنّه رسول لا يحمل رسالة، بل أن دوره الأصلي ليس مستمدّا من المرسل، بل هو مستمدّ من استحقاق المرسل إليه إلى أن يزار. الزيارة هي حضور في حضرة من يستحق أن يكون الآخرون في حضرته: الزيارة في معناها المجرّد أو الخُطاطي العامّ هي استحقاق المعشوق أن يراه العاشق، لكن أيضا أن يراه غيره؛ إنّه تجلّ في لحظة الاستكشاف للوصول إلى الاقتناع بأنّ هول ما حدث للعاشق مبرّر بجمال المعشوق، وما له من هالة.
العلاقة الأخيرة بين (زورا بثينة) و(أن الزيارة للمحبّ يسير) هي علاقة سببية أخرى لكنّها لا تبنى بناء منطقيا، بل تبنى بناء نفسيّا يبطل الحقيقة ويستعيض عنها بنقيضها: من الناحية الاجتماعية فإنّ (الزيارة للمحبّ أمر عسير) هي الحقيقة الواقعيّة، لكنّ الشاعر سعى إلى قلبها من عسر إلى يسر، لأنّه يبني الدلالة على عوالم مفارقة للعالم الواقعي: إن زيارة بثينة، وهي مثال المعشوق الذي ينبغي أن يكشف نفسه للكون، ينبغي أن تكون أمرا يسيرا على من أحبّها: يسرها من أمرين لا يدركان إلاّ بالمقارنة: هالتها بما هي كائن مشعّ وهول عشقها على من عشقها. كانت هذه رحلة في «عقل» الشاعر عبر لغته ومن خلال تصوّراته للكون الشعريّ وللكون العشقي الذي ينخرط فيه: شخص كهذا يعالج الوضعيّة العشقية بعقل قياسي يوجب به ما لا يوجد، ويتصوّر به كون العشق بما لا يوجبه التصوّر المألوف، شخص كهذا هل يمكن أن تناسبه صفة الجُنون حتى لو كانت مجازا؟

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية