الصورة التي تحفظها الذاكرة تكون موجبة على الدوام، وبالألوان، والبقية كلها معتمة ومضببة، أي سالبة. التقيتُ بالشاعر سامي مهدي مرة واحدة في شارع المتنبي في العاصمة بغداد، وكان لقاءً عابرا وقصيرا، لكني شاهدته مرات في الواقع وفي التلفزيون والصحافة، وعبر مواقع التواصل، وأراه الآن في الشاشة الفضية، جالسا في قاعة ممتلئة بالمسؤولين الكبار في الدولة – نحن في عام 1991 – ورأس النظام السابق يدعو القوات المسلحة إلى عدم الانسحاب من الكويت بأي صورة: «حتى لو أتاكم كتابٌ موقعٌ من قبل صدام حسين يأمركم فيه بالانسحاب فلا تفعلوا».
هي لقطة سينمائية لا تغيب عن الذاكرة، حيث هالة السلطة الحاكمة تحيط بكل مسؤول حزبي وضابط عسكري من الحشد الذي كان يحضر اللقاء مع الرئيس، وهذه ميزة الحكومة عندما ينفصل جسمها عن رأس الشعب، فأنت ترى في الشخص لا صورته هو، إنما هيئة رئيسه الأعلى، ويحدث الأمر نفسه في كل زمان في بلداننا، فالمسؤول الصغير يقلد من هو أعلى منه في الكلام وفي حركة اليد وغير ذلك، وتأتي في النهاية أشكالهم تتشابه كثيرا، وهي نسخة من الرأس الأعلى. كان الجميع إذن متماثلين في الشكل والهيئة، ويمكننا تسمية الواحد منهم بالكائن اللاأدري، ورفع الشاعر اللاأدري سامي مهدي ذراعه طالبا الإذن بالكلام، وأذن له الكائن الأدري الأعلى، صدام حسين. قال: «وماذا يا سيادة الرئيس لو أن الأعداء قاموا بترتيب تصويري كاذب لسيادتكم وأنتم تأمرون الجيش بالانسحاب». كان الحزب الحاكم يرفع في تلك السنين شعار «للقلم والبندقية فوهة واحدة» والحاضرون في الجلسة كانوا ممن يحملون القلم أو البندقية، أو الاثنين معا، ومن أسرار قيادة الدولة أن يكون الديكتاتور فيها مفعما بالطاقة التي ينقلها إلى المسؤولين الكبار والصغار، كل حسب استحقاقه، وهي طاقة تبدو للجميع أزلية لا تحول ولا تزول، وكانت حصة سامي مهدي منها تفوق جميع رفاقه، فهو مؤمن باحتلال الدولة الجارة أكثر من الجميع، بل إن الشحنة التي وصلته في تلك الجلسة كانت كارثية، لأنه تفوق بحماسه على صدام حسين، وكان يريد تهيئة الجيش والشعب إلى احتمالات ربما فاتت الرئيس.
تأرجحت القاعة بما يشبه الهزة هُنيهة، ما إن أتم الشاعر كلامه، لأن طاقة الرئيس صارت أقل زخما، فصار نوع من فرق الجهد بين الاثنين، وانبعثت في القاعة سحابة غبار بسبب الهزة، اختلط شميمها بالرائحة الجافة والخفيفة للحشرات التي تسكن القاعة، وأثارت الروائح أعصاب أنف الرئيس، فعطس مرة، ومرة أخرى، وكان هذا الفِعل هو الجواب الوحيد على سؤال لا ينتمي حتى إلى عالم الشعوذة والصخب، أو ما يُدعى بالفانتازيا.
كان الشاعر الذي رحل عنا قبل أيام إلى دار الآخرة من المقربين إلى السلطة الحاكمة في زمن البعث (1968 – 2003)، وشغل مناصب مهمة في الحزب والدولة، وكان يمدح صدام في شعره، وسماه في إحدى قصائده (أمير القلوب): مرحبا يا أمير القلوب/ مرحبا حين تطلع في أولَياتِ النهارِ/ وتبزغ في الأفق/ تنهض في الضوء/ تنهل في القطرِ/ تفترش الأرضَ/ تغمرها خضرةً/ وتطل على الناس في كل زرعٍ عجيبْ».
وآخر منصب شغله هو رئاسة مؤسسة «الثورة» للإعلام، وعندما أُسقط تمثال صدام حسين من قبل الجنود الأمريكيين يومَ الأربعاء الموافق 9 نيسان/إبريل، كانت افتتاحية الجريدة الناطقة باسم حزب البعث الحاكم، التي صدرت فجر يوم الثلاثاء 8 إبريل، تحمل توقيع سامي مهدي.
ينتمي الشاعر إلى ما يَسمى بجيل الستينيات في العراق، الذي يضم الشعراء فاضل العزاوي وسركون بولص وآخرين، وأصدر كتابه الأول «رماد الفجيعة» عامَ 1966، ونشرَ حتى وفاته كتبا شعرية عديدة، وله مؤلفات كذلك في النقد والبحث الأدبي، بالإضافة إلى رواية تعود إلى أيام الحرب العراقية الإيرانية، وهي عمل تعبوي كان القصد منه استثارة حماس الجنود في المعركة، لكنها سقطت في وحل القصدية والمباشرة، وتلوثت به جميع صفحاتها. من ناحية النقد، فإن أحسن من صور الشاعر هو رسام الكاريكاتير علي المندلاوي، في لوحة نُشِرت في مجلة «ألف باء» الشهيرة، وظهر فيها سامي مهدي جالسا إلى مكتبه بثياب صيفية أنيقة للغاية، واستبدل الرسام أقدام المنضدة بعجلات تدور مسرعة، والشاعر على كرسيه بهيئة مَن يمتطي فرسا مسرعا، والمساحة ضيقة في المكتب، والنوافذ مغلقة. إنه فارسٌ إداري وحزبي لا يعيش في الواقع، وهذا تفسير اللوحة. أغلب شعر سامي مهدي رمادي اللون جدا، ويمكن أن يوصف بشعر العلماء، البرودة وضعف الخيال والعجز عن الابتكار أهم صفاته، وإذا زاره شيطان الشعر صدفة كتب قصيدة هجاء بحق شاعر أو سياسي أو مواطن عادي، يطالع القارئ فيها صورا مُنفرةً، مشبعة ببعض القسوة والشدة، وينسحب الأمر إلى قصائد أخرى لديه، وربما كان انتماؤه إلى حزب البعث وعمله طوال حياته بين صفوفه السبب وراء الصور التي تكاد تكون مرعبة في شعره، مثل هذا المقطع الأول في مفتتح ديوانه «أسفار جديدة» 1976: «عند حَز الرقَبهْ/ ننتهي نصفين/ نصفٌ نافرٌ كالريح في القَفْرِ/ ونصفٌ خَشَبَهْ».
لا يعرف القارئ من هو المقصود بالمعنى، حيوان مذبوح أم من بني البشر، حيث لم يكن تنظيم «داعش» و»القاعدة» معروفين في تلك السنين، أو هذه القصيدة التي أنقلها كاملة من مجموعة «الزوال»1981، وتحمل عنوانا غريبا هو (ورقة ليست لكافكا): «دب القراد إليه/ فاسترخى/ ونام/ وتكاثرت زمر القراد/ فما أحس/ وظل يحلم بالسلام/ حتى إذا ما مرّ يوم واستفاق/ تخلعت أطرافه من جانبيه/ ولم يجد إلا العظام». العمل الذي يشير إليه العنوان هو رواية «المسخ» لكافكا، لكن الصورة الشعرية التي تقوم عليها القصيدة فيها ذم وهجاء ونوع من الكراهية الشديدة لأحد من الناس، أو أن المقصود بها أحد أعداء الشاعر (العديدين) الذين كانوا ينتمون إلى أحزاب سياسية ممنوعة في ذلك العهد، أو ربما كان بطل القصيدة شاعرا لا يميل إليه سامي مهدي، وهو قريب منه، والاحتمال الأبعد أن يكون المعني هنا هو الروائي صاحب «المسخ» وعندما يصعب على القارئ مشاهدة أحد في القصيدة فسوف يرى وجه الشاعر ماثلا أمامه، ولهذا السبب كان النقاد الأقدمون لا يعدون قصائد الهجاء من الشعر، بسبب الخلط الذي قد يحصل في الذهن بين الشاعر والشخص الذي يقصده بالذم. يذهب علماء النفس الحديثون إلى رأي مشابه، وهو أن ما نكرهه لدى الآخر موجود فينا، ونحاول التخلص منه، ونفشل في ذلك مرارا. إن عدونا هو كائن نائم في داخلنا، وعندما يستيقظ طيفه نبدأ بمحاولات للتبرؤِ منه، والهجاء في الشعر إحداها.
ما نملكه من معلومات أن عائلة الشاعر كانت فقيرة، أبوه صاحب دكان بغدادي، وتنحدر أصول أمه من مدينة (الفلوجة)، القضاء التابع لمدينة الرمادي الواقعة في غرب العراق. وُلِدَ سامي مهدي عباس في بغداد عام 1940، درس في الكتاتيب أولا، ثم دخل المدرسة وتخرج في كلية الآداب في جامعة بغداد واختص في الاقتصاد، ووافته المنية يوم الاثنين 29 آب/أغسطس من هذا العام، وهو اليوم الذي جرى فيه اقتتال بين الفصائل المسلحة في المنطقة الخضراء، حيث أعلنت الحكومة منع التجوال في أنحاء العراق، وقد رُفع في اليوم التالي الثلاثاء، وأعلنت عائلته عن وفاته يوم الخميس 1 أيلول/ سبتمبر، أي بفارق ثلاثة أيام عن يوم رحيله، وأقامت مجلس الفاتحة على روحه في جامع يقع في بلدة العامرية، الحي الذي كان يسكنه الراحل لعقود عديدة، ويخص الطبقة الوسطى في المدينة. قيل إن تشييعا صامتا جرى للشاعر، ودُفن بناءً على وصيته جوار قبر أبيه في مقبرة الكرخ، ونفهم من مجرى الكلام أن مواراته الثرى تمت في السر التام، وهذا أمر لا يصح مع شخص معروف في البلد، حتى إن البرلمان العراقي نعاه، بالإضافة إلى الاتحاد العام لأدباء العراق.
أخيرا، لا بد من شيء من شعر سامي مهدي الأخير، وهذه إحدى قصائد ديوانه «يحدث دائما»2014 عنوانها (تلويح): «لوحَ من بعيدْ/ ولم تكن ذراعُه تعرفُ ما يريدْ/ ومر دون أن يلامسَ الاشياءَ/ أو يكلمَ الناسَ/ كما يمر طائرٌ وحيدْ».
كاتب عراقي
صدق الامام الشافعي حين قال :
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
((ذهب علماء النفس الحديثون إلى….. إن عدونا هو كائن نائم في داخلنا، وعندما يستيقظ طيفه نبدأ بمحاولات للتبرؤِ منه،
سامي مهدي كان موجود في ذلك المؤتمر الصحفي ، لكن الذي سأل السؤال هو الراحل أمير الحلو ، يبدو بتوجيه من وزير الثقافة.
مقاربة ضافية بموضوعيتها. سلمت أخي الدكتور حيدر المحسن.