الناصرة- “القدس العربي”: دعا السكرتير العسكري لرئيس حكومة الاحتلال سابقاً الجنرال في الاحتياط آفي غيل، معسكر الوسط، أو المركز في إسرائيل، للكفّ عن تحاشي تبنّي موقفٍ وتصورٍ لتسوية القضية الفلسطينية، بدلاً من التزام الغموض والمراوغة.
ويتساءل غيل، في مقال تنشره صحيفة “هآرتس” العبرية، إن كان تيار الوسط السياسي يحمل بشائر إلى إسرائيل؟
عن ذلك يقول نظرياً: ما يصلح للمستنيرين في الدول المتنوّرة، يجب أن يصلح لنا أيضاً. ففي دولة مشتعلة بالصراعات القبلية والخلافات الجوهرية، يبدو طريق الوسط مغرياً، فهو يعني التقريب بين الأطراف، وخلق التوازن بينهم، والتجسير في ما بينهم، وبالتالي، هو يمثّل صبّاً لغراء العقلانية على الصدع الناشىء في النسيج الاجتماعي.
غيل: الوصول إلى أرضية مشتركة أفضل من التعصب الأيديولوجي والعناد الميسيائي. من دون تسوية، سيزداد الشقاق والاحتراب، ويرفع كل إنسان سلاحه على أخيه، وتحلّ الفوضى
كما يقول إنه لدى الوسط الإسرائيلي ما يستند إليه؛ فـ “الطريق الوسط” هي فكرة ترافق الفكر الإنساني منذ مئات السنين، ويمكن العثور على مظاهرها في العديد من الثقافات. لافتاً إلى مقولة أرسطو القائلة إن الفضيلة تقع دائماً بين قطبين مؤيدَين بارزَين، منهما الرامبام موسى بن ميمون، وحكماء البوذية، وتيار الوسط في الإسلام. ويرى غيل أن إجراء تعديل طفيف على المقولة المأثورة المنسوبة إلى برنارد شو يجعلها تنطبق على حالتنا: “إذا لم تكن شيوعياً في العشرينيات، فأنت بلا قلب، لكن إذا لم تكن شخصاً وسطياً في الثلاثينيات من عمرك، فأنت بلا عقل”. في الواقع، هل هناك ما هو أكثر نضجاً من السلوك البراغماتي الذي يسعى لحلّ الخلافات من خلال التسوية؟
ويمضي في استنتاجاته: “إن مَن ينضج، ويودّع عاصفة شبابه الأيديولوجية، يتعلم أن يتصالح مع الطبيعة البشرية. إنه يدرك أن التوترات والتعقيدات والتناقضات متجذّرة فينا. لذلك، فإن التسوية هي روح التنظيم البشري. والوصول إلى أرضية مشتركة أفضل من التعصب الأيديولوجي والعناد الميسيائي. ومن دون تسوية، سيزداد الشقاق والاحتراب، ويرفع كل إنسان سلاحه على أخيه، وتحلّ الفوضى محل النظام الاجتماعي”.
ويزعم أن الوسط السياسي في إسرائيل يسعى جاهداً للعثور على الخيط الرفيع الفاصل بين المواقف المتضاربة والمصالح المتنافسة: بين المحافظة والليبرالية، بين المسؤولية الاجتماعية وحقوق الفرد، بين العالمية والقومية، بين دولة الشريعة والفصل بين الدين والدولة، بين الاقتصاد الحر والاهتمام بالفئات المستضعفة.
ويقول إن الروح المستنيرة التي تشع من الوسطية تغري كثيرين في إسرائيل، ومن بين هؤلاء، مَن دفعت بهم الحرب الراهنة نحو القطب الأيمن من الطيف الأيديولوجي، وما زالوا يبحثون عن ملجأ سياسي في الوسط، الذي يُنظر إليه على أنه أكثر عقلانية ومسؤولية من القطبين.
ويتابع: “لكن واقعنا الفريد يعقّد حياة الوسط؛ إنه يفتقر إلى إجابة عن التحدي الأكبر الذي يعترض إسرائيل: الصراع مع الفلسطينيين. لقد نجحت السياسة، على مدار سنوات، في تهميش القضية الفلسطينية، لكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أعادها إلى صدارة جدول الأعمال. ما هي إجابة الوسط عن السؤال الذي يترك بصماته على كل مجال من مجالات حياتنا؟ إن الجهد المبذول لاستخلاص إجابة واضحة محكوم عليه بالفشل”.
ويرى غيل أنه في القضايا الحاسمة المتعلقة بحلّ الدولتين وبقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال، ينصبّ تركيز التيار الوسطي على احتساب موقفه، بحيث يكون في النقطة الوسطى من الطيف الذي يمثل الكيانات الأيديولوجية، لكن في القضية الفلسطينية، لا يوجد لدى الوسط فكر أيديولوجي خاص به، فمواقفه تتولد من المسافة النسبية التي تفصلها عن أيديولوجيات الآخرين.
ويمضي في نقد الوسط الإسرائيلي: “هكذا، فإن التحولات الفكرية للتيار الوسطي في القضية الفلسطينية مستمدة من ازدياد قوة التيارين اليميني أو اليساري، أو تفاقُم ضعف أحدهما على حساب الآخر. وعلى الرغم من أن القطبَين الأيديولوجيَّين هما اللذان يسبغان على التيار الوسطي جوهره، بصفته وسطياً، إلا إن أتباعه يميلون دائماً إلى إطلاق ألقاب مسيئة على أتباع القطبين: ميسيانيون، موهومون، متطرفون. السؤال هنا: ألا يوجد بعض الأوهام أيضاً لدى الوسطيين؟ أليس من الجنون أن نفترض أن الموقف الصحيح في الشأن الفلسطيني يجب أن يكون في منتصف الطريق بين اليمين واليسار؟
غيل: لقد نجحت السياسة في تهميش القضية الفلسطينية، لكن السابع من أكتوبر أعادها إلى صدارة جدول الأعمال
بعد هذه التساؤلات، يرى غيل أيضاً أنه يجب على الوسط الإسرائيلي أن يوضح إجاباته عن الأسئلة الرئيسية المرتبطة بوجودنا: كيف يمكن ضمان الإبقاء على الطابع اليهودي والديمقراطي لإسرائيل من دون تقسيم الأرض؟ هل من الممكن استمرار واقع الاحتلال إلى الأبد؟ إن التخبط تحت شعارات وسطية فاشلة لإدارة الصراع وتقليصه لا يقلل من العداء الفلسطيني، بل يقوي أولئك الذين ينكرون وجود إسرائيل، ويُضعف أولئك الذين هم على استعداد لتقديم تنازلات. ويقول أيضاً إن المماطلة والتردد في اتخاذ موقف لا يمهّدان الطريق إلى تسوية مستقبلية، بل يشتريان وقتاً لترسيخ الاحتلال، وتعميق الاستيطان، وجعل تقسيم الأرض مستحيلاً، وبالتالي يؤديان إلى تدمير إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.
ويضيف: “نُقل عن شيمعون بيرِيز طرفة، ففي إحدى زياراته لفرنسا، تم حجز موعد له مع زعيم حزب وسطي جديد. اهتم بيريز بمبادئ الحزب الأيديولوجية. فوجّه سؤالاً إلى محدثه، الذي فوجئ بالسؤال، فتلعثم الرجل، ثم قال: “يتمثل فكرنا في تمثيل التغييرات الجارية على الواقع”. عندما يتخلى التيار الوسطي عن هذا الأسلوب المراوغ في الإجابة التي نطقها الفرنسي، ويكشف خياراته الأيديولوجية بوضوح: هل هو مع تقسيم البلد، أم الحفاظ على وحدة ترابه، فإنه يفقد هويته الوسطية، ويتم امتصاصه في أحد القطبين المتنافرَين”.
ويخلص غيل للقول: “بناءً على ما تقدّم، ولكي يكون المرء وسطياً في إسرائيل، عليه أن يتبنّى الغموض الأيديولوجي في أهم المواضيع المتعلقة بمستقبل إسرائيل: النزاع مع الفلسطينيين. وبعد السابع من تشرين الأول /أكتوبر، أصبح الثمن الوطني لهذا الغموض أثقل من أن يُحتمل، ولذا، من الواجب على تيار الوسط أن يوضح بصورة دقيقة وحادة تصوره في ما يتعلق بحلّ النزاع، حتى لو أدى ذلك إلى فقدان تصنيفه كتيار وسطي”.