جنرال السلام!
الياس خوريجنرال السلام!لعل الدرس التاريخي الأكبر من اختفاء الجنرال شارون عن المسرح يكمن في لعبة الكلمات والمعاني التي حولت غياب جنرال شاتيلا وصبرا الي غياب رجل السلام .صحيح ان الهيمنة الاعلامية الأمريكية، والاسرائيلية تاليا، لعبت دورا اساسيا في تغيير صورة شارون: بطل قبية وشاتيلا وصبرا تحول ابا للأمة، والجنرال الأهوج صار رجلا حكيما، وباني المستوطنات اتخذ صورة هادم المشروع الاستيطاني في غزة.كأن الاعلام المهيمن لا يكتفي بمحو الذاكرة، بل يجري عملية زرع لذاكرة جديدة بدل ذاكرة قديمة لم تعد ملائمة.العالم يبكي علي الجنرال الذي يشكل غيابه ضربة للسلام في فلسطين والشرق الأوسط.كأننا في منام، او كأن علينا ان ننسي كي نستطيع ان نبتلع هذا الوصف لرجل ارتبط اسمه بمجموعة من الجرائم في المشرق العربي.سوف يزيد هذا الواقع الكابوسي من شعور الاحباط وهلوسات المؤامرة الدولية علي العرب والمسلمين، اذ ستبدو الأمور وكأن هناك ما يشبه المؤامرة الاعلامية علي الفلسطينيين والعرب. يستطيع الاسرائيلي ان يسفح ما يحلو له من دماء، وسيجد في النهاية من يبيّض صورته، وينسي جرائمه.السياسة الهوجاء التي وسمت ادارة جورج دبليو بوش، بعد الحادي عشر من ايلول، تتحمل جزءا من مسؤولية التحول في المزاج الاعلامي الامريكي، تجاه العرب، بحيث صار تبييض الاسرائيلي شرطا لتسويد العربي. هكذا تحول ياسر عرفات ارهابيا وصار شارون مسالما. صانع اتفاق اوسلو، الذي هلل له الامريكيون، مات او اميت محاصرا، بينما يموت رافض الاتفاق وعدو السلام في المستشفي وحوله صلوات الرئيس الامريكي والدموع حزنا علي السلام.انها ليست سخرية الأقدار، كما نقول في العادة، بل سخرية من يعتقدون انهم يصنعون اقدار العالم والشعوب في روما الجديدة الأطلسية. غير ان البحث عن اسباب نجاح اللعبة الاعلامية ـ السياسية، يجب ان لا يتم داخل ترسيمة غيبية يريد صانعو السياسة الأمريكية للعرب السقوط فيها. فالمسألة تتجاوز الاعلام لتصب مباشرة في ميزان القوي. لقد انقلب ميزان القوي في شكل كامل بعد الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، وعرفت السياسة الأمريكية تحولا جذريا وصل الي ذروته في احتلال العراق. وكانت السمة الرئيسية في هذا التحول تهميش العالم العربي، واخراج السلطات العربية الحليفة للولايات المتحدة من دائرة القرار. هكذا تحولت اكبر دولة عربية الي مجرد كومبارس، وكان علي الرئيس المصري التحايل الديمقراطي من اجل البقاء. اما اغني دولة عربية، فكان عليها ان تصارع من اجل بقايا نفوذها الاقليمي، اذ وجدت السعودية نفسها في مرمي الهجوم، وكان عليها ان تتقبل تهميشها الاقليمي وتدهور نفوذها. اما النظام البعثي في سورية فكان عليه ان يتحمل اوزار اسمه وسياساته، فقبع في زاوية تكتيكاته القديمة التي اوصلته الي العزلة، ودفعته الي ارتكاب اخطائه اللبنانية الكبري التي تنذر بأفوله.فجأة تغيرت قواعد اللعبة بأسرها، وصارت اسرائيل، في عرف المحافظين الجدد، حليفا وحيدا. والتقت الرعونة اليمينية في البلدين. وجد بوش في شارون جنراله الذي يركب المخاطر، ووجد شارون في بوش صورته الامبراطورية، والتقي الرجلان علي ضرورة تأديب العالم العربي وتهميشه. تلك كانت لحظة الانعطاف، حيث وجد الفلسطينيون انفسهم في العزلة. صارت الأنظمة العربية اشبه بملوك الطوائف في الأندلس، وانفلت الوضع الفلسطيني امام الهول التصعيدي الاسرائيلي، ولم يعد عرفات المحاصر قادرا علي المناورة امام القرار الاسرئيلي ـ الأمريكي، بتصفية القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني. النظام العربي، الذي كان شريكا اساسيا في النصر الأمريكي الذي تحقق في افغانستان، الذي كان فاتحة نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، وجد نفسه خارج المعادلة، بل كان عليه دفع الثمن الأكبر لانتصار حليفه الأمريكي.هنا يكمن سؤال الأهلية. ميزان القوي ليس عسكريا فقط، بل نسيج معقد من العوامل السياسية والعسكرية والثقافية والدبلوماسية.النظام العربي بشقيه الملكي والجمهوري صار جزءا من الماضي. النظام السعودي يظلاميته كان صالحا في مرحلة الحرب الباردة، حيث لعب الاسلام الجهادي دورا كبيرا ليس في افغانستان وحدها، بل في كلّ ارجاء العالم العربي، بحيث وجدت الثقافة العربية الحديثة نفسها في حصار وملاحقة من الأصوليين لا سابق لها. والجمهوريات الوراثية التي بنت ديكتاتورياتها الوحشية علي فتات الايديولوجية السوفييتية، صارت اشبه بالذاكرة الاجرامية، ولم يعد امامها سوي احد خيارين: اما الخنوع علي طريقة الديكتاتور الليبي، واما الجنون علي طريقة الديكتاتور العراقي. اما الاستثناء المصري الذي يجمع الخنوع الي التحايل فانه يؤسس لسقوطه الوشيك، ولتسليم السلطة للاخوان المسلمين.لقد اخرج العالم العربي من المعادلة الدولية، لأن النظام العربي يحتضر. وهذا ما سمح باستفراد الشعب الفلسطيني، وتشريع الاحتلال دوليا، بل وتسويق المشروع الشاروني الذي يريد بناء باندوستانات تمييز عنصري لسكان البلاد الأصليين مطلقا عليها اسم دولة فلسطينية، وتحويل الانسحاب من غزة، الذي اراده شارون وسيلة لاطلاق يده من اجل ضم اجزاء واسعة من الضفة الغربية الي اسرائيل، الي علامة سلام.هكذا يقرر ميزان القوي اللغة، ويزوّر الحقائق، بحيث صار تبييض شارون هو الاسم الآخر لعدم اهلية النظام العربي، وبحيث يقوم هذا النظام بتدفيع الشعوب العربية ثمنا باهظا من الموت والذلّ. كأن عجز النظام العربي وعدم اهليته يحوّلان العرب جميعهم الي فلسطينيين.0