يمكن للنقاش بين السرديين أن يكون داخليا، أو خارجيا. أثيرت قضية أيهما أسبق وأهمّ، السرديات الفرنسية أم الألمانية؟ أقدم تصورين مختلفين، أحدهما خارجي يؤكد أسبقية شتانزل، ويندب حظه العاثر، بالقياس إلى جنيت، الذي لقي رواجا كبيرا، مقدما تبريرا لا علاقة له بالقيمة العلمية. أما الداخلي فيقارن بين عملي الباحثين من الداخل ليجيب عن سؤال لماذا نجح جنيت في ما أخفق فيه شتانزل.
عمل ديفيد ديربي في دراسته حول «الشكل والسياق: مقالة في تاريخ السرديات» (2001) على المقارنة بين تقليدين لنظرية السرد: السرديات البنيوية الفرنسية، التي ظهرت في الستينيات، ونظرية السرد في اللغة الألمانية ( Erzältheorie) التي سبقتها بالظهور في الخمسينيات، وكان تاريخها الفعلي يمتد إلى ما قبل هذا التاريخ، ما يجعلها متصلة بالكلاسيكية الجرمانية في القرن التاسع عشر.
يسعى الباحث من وراء التمييز إلى إبراز أن هدفه من الربط بين النظريتين الفرنسية والجرمانية الجواب عن السؤال التالي، واستكشاف: «لماذا اتسع نطاق السرديات الفرنسية، وكسبت مشروعيتها منذ أن تحققت مع البويطيقا الشكلية، بينما التقليد الجرماني، الذي تركز على البلاغة وجمالية التلقي اللتين جعلهما منطلقا للبحث في السرد باعتباره متصلا بالبيئة المحيطة وعالم الأفكار، وبالمؤلف والقارئ، لم يحتل المكانة التي عرفتها السرديات الفرنسية؟ وبعد أن حدد أساس التمايز بين العالمين: النصي والسياقي في الدراسات الأدبية، ركّز على أهمية التقليد الجرماني، لأنه قدم مساهمات في تطوير نظرية السرد السياقي الذي كان موضوع اختلاف مع نظيره الفرنسي، الذي اهتم فقط بما هو نصي.
بعد تحديد هذه المنطلقين: التمييز بين التقليدين الجرماني والفرنسي في الاهتمام بما هو سياقي أو نصي، عرّج على السرديات الفرنسية، ليحدد إطارها الزمني في الستينيات من خلال عدد مجلة «تواصلات» (1966) ومجلة «بويطيقا» 1970، وكتاب جنيت (1972) ليكشف بعد ذلك أن تاريخ السرديات يمتد إلى الشكلانيين الروس، ثم مع الأنثروبولوجيا البنيوية لليفي ستروس، واللسانيات، والبنيوية الفرنسية، مستنتجا أن كل ذلك ساهم في جعل السرديات معروفة، سواء داخل فرنسا، وبعد ذلك في أمريكا منذ سنة 1980 (تاريخ ترجمة كتاب جنيت). مقابل ذلك يؤكد أن التاريخ الفعلي للتقليد الجرماني أسبق لأنه يعود إلى سنة 1955، أي إلى عقد كامل قبل التقليد الفرنسي، من خلال عملي كل من فرانتس شتانازل، وإيبرهارد ليمرت، اللذين لم يكن لهما أي تأثير في الدراسات السردية، مفسرا ذلك بأن كتاب ليمرت (الأشكال البنيوية للسرد) لم يكن معروفا لأنه لم يترجم إلى الإنكليزية.
شارك ميكائيل شيفيل في مقالته حول: «جنيت والسرديات الألمانية: الخطاب السردي نموذجا» في الملف الخاص الذي خصصته «المجلة الجديدة للجماليات» لجيرار جنيت (2020) بالانطلاق من طرح سؤال: لماذا نجح كتاب جنيت؟
ورغم ترجمة كتاب شتانزل حول «المقامات السردية في الرواية» سنة 1971، أي قبل كتاب جنيت، فإنه مع ذلك بقي محدود الأثر، إلى أن صدر كتابه الثالث حول «نظرية السرد» سنة 1979، الذي انتشر بين الدارسين، وترجم سنة 1984 إلى الإنكليزية وصار له بذلك موقع عالمي. علاوة على هذه الإشارات الدالة على أهمية الترجمة في نشر السرديات البنيوية الفرنسية عالميا، يؤكد أن عمل جنيت ساهمت فيه مجموعة من الباحثين الذين ناقشوه، وكلهم يكتب بالإنكليزية، مثل: ميك بال، وشلوميت ريمون كينان، وسيمور شاتمان، وجيرالد برينس، ولم يتأت هذا لشتانزل وليمرت رغم سبقهما، وتقاطع بعض تصوراتهما حول السرد مع ما قدمه جيرار جنيت، لكنه مع ذلك لم يناقش لماذا تعرضت اجتهادات جنيت أولا للترجمة، وثانيا للنقاش في حين أهمل غيرها؟ كان في إمكان الجواب على هذا السؤال أن يحرّف مجرى متابعته المقارنة بين التجربتين الفرنسية والجرمانية ليؤكد سبق الأخيرة؟
شارك ميكائيل شيفيل في مقالته حول: «جنيت والسرديات الألمانية: الخطاب السردي نموذجا» في الملف الخاص الذي خصصته «المجلة الجديدة للجماليات» لجيرار جنيت (2020) بالانطلاق من طرح سؤال: لماذا نجح كتاب جنيت؟ ويجيب عنه بالقول إن الخطاب السردي لجنيت منظورا إليه عن كثب، أو بالأحرى من وجهة نظر مجردة، ليس بمنأى عن المقاربات الألمانية. إنه «مقال في المنهج» كما في عنوانه الفرعي، ركز على رواية واحدة، لكنه في الواقع قدّم نسقا مؤسسا بطريقة استنباطية. ووفق هذا المبدأ فهو شبيه بما قامت به كيت فريدمان، تبعا للتقليد الألماني، الذي بمقتضاه ينظر إلى السرد بأنه يتشكل قبل كل شيء بواسطة الفعل اللغوي، وتبعا لذلك فإننا أمام نسق مستنبط من نحو الفعل. وعندما نقارن ما قام به جنيت بما فعله شتانزل وغيره نجد لتصور جنيت ميزة إعطاء نموذج للوصف أكثر تكاملا. والمكونات التي وقف عليها (النظام، المدة، التواتر، المستوى) لا نجدها عند شتانزل. وبالنظر إلى دائرة هذا الأخير التي تقدم إلينا بصفتها نظاما منغلقا، ترمي إلى تحقيق شمولية متخيلة، نجد المبدأ المعياري لجنيت يقدم من خلال لائحة لثلاثة معايير مركزية (الزمن، الصيغة، الصوت) بالإضافة إلى عدد كبير من الميزات التي يمكن توسيعها، ودمجها ببعض بحُرِّية. وبهذه الكيفية يمكننا الإمساك، ووصف كل حالات العمل السردي. مع جنيت نحن أمام نسق منسجم، وقابل للانفتاح مؤسس على الوضوح الاصطلاحي.
فهل نقد نقدنا السردي داخلي أم خارجي؟
كاتب مغربي