جنين بعد عدوان الأيام العشرة: رمزية وطنية تتجذر وسؤال الاستجابة المعلق!

سعيد أبو معلا
حجم الخط
0

جنين ـ «القدس العربي»: بعد عشرة أيام من العملية العسكرية الأوسع على مدينة ومخيم جنين منذ عام 2002 تدخل الفنانة الفلسطينية الملتزمة حنة الحاج منزل أقارب زوجها عازف الإيقاع ينال استيتي، لمعاينة ما فعله جنود جيش الاحتلال في المكان.

وكان الجنود قد تحصنوا في المنزل، أسوة بعشرات المنازل، طوال فترة العملية العسكرية التي حملت اسم «مخيمات الصيف» حيث يقع المنزل على أطراف حارة «الدمج» ذائعة الصيت، فهو جزء من خاصرة الحارة التي شهدت كمينا متقنا للمقاومة، كما أنه مطل على مقاطع واسعة من المخيم ومدينة جنين.
تدخل الفنانة حنة للمكان بعد لحظات من دخول أصحابه إليه، وتشغل كاميرا هاتفها المحمول لمعاينته بصريا، ورغم أن المنزل لم يتعرض للهدم والتدمير كما حدث في منازل ومحلات ومساجد في المدينة إلا أنه يعكس جانبا مهما في السلوك الاحتلالي الجديد وفي رسالته للأهالي أيضا.
تنقل حنة تفاصيل ما حل بالمنزل الذي كان مقرا لعشرات الجنود، فيما تتكفل صاحبة المنزل السيدة دولت استيتي بعملية ارشادها على الغرف وما حل بها، وكذلك الأثاث وأغراضه وتفاصيله.
تعلق المغنية الحاج: «لا داعي للوصف، المكان مقرف، رائحته كريهة».
يظهر الفيديو القصير، الذي انتشر سريعا على تطبيق انستغرام، ما حل بأحد المنازل البسيطة لعائلة لاجئة، وفيه يظهر بوضوح تفاصيل العائلة وأحلامها، غرف الأطفال، والصالون، والمطبخ الذي يبدو أنه صمم بعناية ليناسب المكان الضيق، السجاد الملون، ما علق على الجدران، وصور الأبناء في أبهى حلتهم، لكن كيف ترك الجنود المكان؟ لقد تدنس المنزل بالكامل، حطم الجنود أثاثه، تحولت غرفة نوم العائلة إلى مكان للقنص، وجدران العائلة وذكرياتها تحولت إلى جداول عمل الجنود وأجندتهم اليومية، فيما قاموا بقضاء حوائجهم في الغرف التي بالكاد تمكنت العائلة من دخولها.
يلتقط الناشط الشبابي لؤي طافش المشهد، ويعلق لـ«القدس العربي» على الفيديو مشددا أنه «يظهر الجيش الإسرائيلي الذي مارس طبيعته الحيوانية داخل منازل الفلسطينيين».
يقول: «لقد قضوا حاجاتهم داخل الغرف، خرجوا وتركوا رائحة المكان نتنة للغاية بعد ان دمروا كل شيء، لكن المهم أن ننتبه إلى أنهم تركوا ورقة (بوستر أزرق) كتب عليه التالي: عندما تعودون إلى منازلكم ستعودون إلى مكان أكثر أمانا. لا تسمحوا للمجرمين بالتحكم في مستقبلكم حيث مستقبلكم بين أيديكم». وطبع عليها شعار جيش الاحتلال الإسرائيلي.
تعلق حنة الحاج على البوستر التحريضي: «كثير بضحكوا.. عمرها نجحت..!! (أي التحريض على المقاومة)».
ويضيف طافش: «نحن أمام مستوى لم نعهده من التخريب والتدمير بحق الفلسطينيين والعائلات، وكل ذلك لا يريد الاحتلال أن يراه أو يفكر فيه، إنما الاحتلال معني بالبوستر الأزرق الذي وزعه، لا يفكر بالتخريب ونتائجه، ولا بفضلات الجنود التي بقيت داخل المنزل، ولا برائحة الاحتلال في المنزل، إنما يفكر بالورقة التي يحدثنا فيها عن المستقبل الذي يتحكم فيه المجرمون (المقاومة) أما الاحتلال فلا علاقة له بكل ما يجري».
يصف ما تعكسه رمزية الاعتداء على المنزل والورقة التي أبقاها الجنود خلفهم إنها «صورة تتضمن شيزوفرينا العقلية الإسرائيلية، وفيها تشوه في الفهم الإنساني للكيان وجنوده».
ويرى طافش أن العملية العسكرية مثل سابقاتها، هي جزء من مشروع سياسي إسرائيلي، يساهم في التهجير المباشر عبر ضرب أسس الحياة في الضفة الغربية، لقد بتنا نسمع تأفف وتذمر من قطاعات الشباب حيث هناك تفكير بالهجرة أو بالتهجير بمعنى أدق، وهو أمر يجب مناقشته وطنيا لتحصين الشباب والمجتمع والشباب من مفهوم الذي يزرع بهدف اقتلاعهم.

جنين رمزية تتعاظم

وعلى عكس المتوقع من العملية العسكرية تحولت مدينة جنين إلى أكبر حالة نضالية تصنع الاجماع الذي يفضي إلى البناء والصمود وإعادة ترميم ما دمره الاحتلال، وبدلا من بث مشاعر الحزن والإحباط والتشكي والتذمر أصبحت المحافظة بناسها ملهمة على الحب ومعززة للانتماء.
وعكست مئات الفيديوهات والصور التي نقلت حشود الجماهير التفافا واضحا على جسم المدينة ومخيمها، لقد كبرت في نظر أهلها وعموم الفلسطينيين بدلا من أن يمزق أهلها الدمار الذي حل بها.
ووصف مواطنون ما تعرضت له منطقة وسط المدينة وعصبها التجاري بـ«مذبحة الشوارع والمحلات» فيما لم تتمكن الجهات الرسمية من حصر الأضرار والخسائر وعموم نتائج سياسة التدمير الممنهجة التي طالت جسد المدينة على مدى الأيام العشرة.
وإلى جانب تدمير المدمر (أي البناء على نتائج اجتياحات واقتحامات سابقة) سعت سياسة الجيش الإسرائيلي إلى تعميق تلك السياسة بهدف تأليب المواطنين على المقاومين، وتدفيعهم الثمن، وما يجمع عليه كثيرون بإن العكس هو الذي تحقق.
وانخرط عموم شبان المدينة ضمن مجموعات إلى جانب آليات ثقيلة جاءت على شكل مجموعات من مقاولين ومواطنين للعمل على إصلاح سريع للبنية التحتية.
وحسب الناشط طافش فإنه «انطلاقا من فهمنا لأهداف العملية العسكرية نرى أن هناك حالة ربط بين الدمار الذي زرع في المدينة ووجود المقاومة، فالاحتلال يعتقد أن التدمير يمكن أن يمارس دورا ضاغطا على الحاضنة الشعبية التي تدعم وتساند المقاومين».
ويضيف: «من هنا يمكن تقييم التجربة الشعبية في المدينة خلال الأيام العشرة بإنها من أنجح التجارب، فقد ظهر معدن سكان المدينة، حيث ظهروا متماسكين غداة مواجهة الاحتلال، وهو أمر ليس غريبا عن المدينة، فهذا سلوك جزء من ثقافتها وتكوينها وتاريخها منذ عام 2002 وحتى اليوم».
ويرى أن التجربة الصعبة أظهرت مؤازرة شعبية ممتازة، فخلال الأيام العشرة كانت كل بناية سكانية تتشارك الموارد، من خبز وطعام وماء، كان هناك اهتمام مشترك، كما تم تبادل أدوات الإنارة، حتى على مستوى السجائر التي كانت توزع بين المواطنين، وكل مواطن كان يتمكن من تدبر موارد كان دائم السؤال عن المحيطين، إنها مؤازرة شعبية ضمن مفهوم «العونة» الراسخ.
ويشدد أن هذا الموقف داخل المدينة هو الذي أوصلها إلى ما نراه في لحظات الانسحاب الأولى، «لقد أرسلت كل المحافظة بقراها وبلداتها ما لديها من معدات ثقيلة لتأهيل الشوارع وازاحة الركام. قاموا بذلك بشكل فردي وضمن بلديات ومجالس قروية، وهي ثقافة محافظة بامتياز».
أما على المستوى الرسمي وموقفه، فيرى طافش أن أزمة جنين جزء من أزمة الوطن والتي تتمثل في «غياب الأفق السياسي وغياب البرنامج الوطني الواضح، عندما يغيب ذلك يغيب فهم المؤسسة والجهات الرسمية لدورها في هكذا لحظات، قضيتنا بالأساس سياسية وليست قضية حفر شوارع او تعبيدها، ليست قضية طرود غذائية أو تعبيد الشوارع، إنما قضيتنا مرتبطة بالبحث عن الحربة والوطن».
ويكمل أنه في حالة غياب الرؤى يجعلك عاجزا عن فهم دورك وطريقة تصرفك بشكل تكتيكي «ومن وجهة نظري، وكما أسمع من المواطنين المحيطين بي، فالمواطنون بدرجة عالية من الرضا في تعاملهم مع بعضهم البعض، وكيف عززوا صمود بعضهم البعض، لكنهم في المقابل غير راضين عن المستوى الرسمي».
وخلال أيام العملية العسكرية كتب الناشط الشبابي طافش منشورا جاء فيه: «جنين، حياة الفلسطيني لازم دايما تستوعب بشكل سريع التغيرات الي بتصير حولينا، الحياة في مدينة جنين تغيرت ولازم احنا كأولاد بلد نفهم هاض التغيير وانفكر بشكل جماعي شو طبيعة الحياة تحت هاض الحصار والدمار، والخطاب الي قايم قاعد بالبلد على وين المدن الثانية سيبوكم منو، هاض الاستبكاء لا يستقدم نتيجة، هادا خيارنا كفلسطينيين وهاي حياتنا والصمود مش خيار في ثقافتنا».
يعلق طافش على المنشور مشددا على أن الهبة النضالية والوطنية في المدينة ليست وليدة ما بعد 7 أكتوبر إنما هي منذ هبة سيف القدس/ هبة الكرامة (2021) حيث بدأت ولم تتوقف، أما ما حدث بعد العدوان الأخير على غزة هو انها ترجمت بشكل كبير بين شبابها وارتفع منسوب المشاركة النضالية فيها.
ويستدرك: «قد تكون الأمور في مدن فلسطينية هدأت بعد هبة الكرامة لكنها في جنين لم تتوقف، بل حافظت المدينة على حالتها النضالية، وبالتالي عندما جاء 7 أكتوبر كانت هناك نواة للعمل الوطني، وبالتالي عملت المدينة واشتغلت على الاستجابة للحدث بشكل سريع، أما بقية المدن في الضفة فلم تكن تمتلك نفس الحاضنة والنواة الشعبية، وبالتالي نرى أن سؤال: أين المدن في الضفة الغربية؟ لماذا لا تفعل شيئا أو تتحرك؟ يكون الجواب عليهما في حال فهم ما حدث في جنين ضمن تسلسله الزمني، فالمدينة التي لم توجد فيها نواة للمقاومة يكون تحركها النضالي بطيئا لأسباب يمكن الحديث حولها».
وفي المقابل، يشعر طافش بمشاعر القلق على الهوية الوطنية الجامعة في ظل الواقع الذي يعزز الهوية الغزاوية أو الهوية المناطقية الجنينية (نسبة لجنين) وغالبا ما يكون ذلك على حساب الهوية الوطنية الأم.
وينتقد غياب نخبة وطنية سياسية، «هناك غياب للمستوى الرسمي وغياب لأدوات العمل السياسي، فما هو موجود منها ليس فعالا وغير حقيقي وشكلي في مجمله، فعلى مستوى النخبة الثقافية والسياسية لم يكن هناك فكرة واضحة حول ما يحدث في فلسطين اليوم. وبالتالي ليس هناك تصور لحجم التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني هذه اللحظة، رغم أن ذلك مهم جدا لكونه يحدد عناوين بناء السلوك الوطني الجامع».
وحسب المحلل السياسي عصمت منصور على العملية العسكرية في شمال الضفة وتصريحات أبرز المسؤولين الإسرائيليين بالقول: «كلمات مثل جز العشب واجتثاث الجذور التي يستخدمها وزير الجيش الإسرائيلي غالانت وقادة جيشه، تجد ترجمتها العملية في عمليات الإعدام الجماعية والتدمير الشامل للبنية التحتية وإجلاء السكان والتنكيل بالأسرى وحالة التقطيع والإفقار للضفة وهي مكمل لعمليات الإبادة الشاملة في غزة.»
ويرى أنه كان بإمكان الاحتلال أن يعتقل، لا أن يعدم من الجو، كما كان بإمكانه أن يجتاح بدون أن يدمر بشكل كلي، ناهيكم عن انه يستطيع أن يدخل إلى هذه العنجهية والعنف الوحشي بعض الجُمل عن حل سياسي، غير انه حسم أمره وحدد أهدافه، وهي الإبادة والتطهير العرقي وحسم الصراع.
وأضاف: «من لا يزال يرى أن المعركة محصورة بأهدافها المعلنة فهو مخطئ ومضلل ويتهرب من المسؤولية، إنها حرب الوجود الأولى التي تتوج وتختزل كل سياسات الاحتلال وبرنامج وروح وخطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف، وبالتالي علينا ان نعي هذا ونتصرف بناء عليه.. أو أن نباد بصمت».
يشدد طافش بدوره ويرى أنه من الواضح من خلال المتابعة للحالة الراهنة أن مصيرنا الفلسطيني واحد ومشترك، فغزة تؤثر على الضفة والضفة تؤثر على غزة، هنا نرى أن مصيرنا مرتبط ببعضه، وما يحدث في كل مكون من أماكن تواجد الفلسطيني ينعكس على مكونات أخرى، وبالمجمل كله ينعكس على الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وفي ضوء ذلك، أي وحدة مصير، يجب ان تكون هناك وحدة في الرؤية والبرنامج الوطن في موضوع المواجهة.
ويختم: «نحن في مرحلة فرز، لها شكل وطابع جديد وإذا لم يحدث تغيير سريع في التنظيمات وقيادة العمل السياسي، فإن الشعب سيعمل على تجاوز كل هذه التنظيمات مع المقاومة التي يرى أنها تمثله، والمطلوب من الكل هو أن تكون الاستجابة في خطط المواجهة بشكل أسرع في ظل تسارع المشروع الإسرائيلي».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية