قبل 21 عاماً كتبتُ مقالاً جاء فيه: «كنت أرى تقريراً فذّاً أعدّه مراسل الـ «بي بي سي» في مدينة جنين، تقريراً من أهم وأعمق ما قدمته الفضائيات.
كانت الكاميرا تتبع شابّاً في الثامنة عشرة من عمره وهو يرشدها إلى قبور أصدقائه الذين فقدهم منذ الانتفاضة الأولى، منذ أن كان في السادسة أو السابعة من عمره، وكان يقول: هؤلاء أعرفهم كلهم، أعرف كيف عاشوا وأعرف كيف استشهدوا، أعرف أين ارتقوا، وأعرف أحلامهم واحداً واحداً.. ويبكي، ثم يشير إلى حفرتين أُعدَّتا كقبرين، ويقول: دائماً هناك حفرتان احتياطيتان. فنحن لا نعرف بالضبط متى نكون بحاجة لهما، أو لأي منهما.
ويصمت الفتى وتبكي الكاميرا.
الآن، خلال معركة مخيم جنين الكبرى هذه (2002)، لست أعرف أخبار ذلك الفتى، وقد أطبق الموت على جنين ومخيمها كما يطبق على كل شارع وزقاق في فلسطين. الآن لا أعرف في أي خندق يربض، أو وراء أي متراس، ويفكر: يا للهول، لم تعد ثمة قبور تكفي!».
***
.. قبل ثمانية وثمانين عاماً خاض الشيخ عزّ الدين القسَّام ورفاقه معركة كبيرة في أحراش قرية «يَعْبَد»، قضاء جنين، استُشهد الشيخ وكثير من رفاقه، وبدا يومها أن ذلك المقاتل الذي ارتقى في أولى معاركه، في أعين البعض، أشبه ما يكون بطلقة في الهواء حالمة، في معركة غير متكافئة مع تلك القوات التي أحضرتها الإمبراطورية البريطانية لملاحقته ورفاقه، معززة بالطيران.
لكن ذلك الاستشهاد تحوّل إلى شرارة أشعلت نيران الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وكبّدت المحتلين والصهاينة الكثير من الخسائر، ما جعل بريطانيا تلتجئ إلى الحكام العرب ليكونوا وسطاء لوقف الثورة بعد أن قطعت الكثير من العهود البرّاقة لفلسطين وثوارها.
في بيان وقف الثورة رقم 16، جاء: «تلبية لنداءات ملوكنا وأمرائنا العرب ونزولاً عند طلب اللجنة العربية العليا، نطلب توقيف أعمال «العنف» تماماً وعدم «التحرش» بأي شيء يفسد جو «المفاوضات» التي تأمل فيها الأمة العربية الخير ونيل حقوق البلاد كاملة، وأن نتجنب أي عمل من شأنه أن يُعدَّ حجة علينا في قطع المفاوضات. إننا نرحب «بالسلم الشريف» ولن نعتدي عليه، ولكننا عند اللزوم ندافع ولن نرمي السلاح…».
في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، قال لي أحد الشهود الذين عاشوا أحداث تلك الثورة: كثرة الشدة هي التي خلقت الثوار. آه والله. ولا تنسَ القهر الذي أحسّ به الناس بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسَّام ورفاقه، ثم من يستطيع أن ينسى يوم جنازته في حيفا؟ مَن؟ آلاف المشيعين وجثث القسام ورفاقه على الأكف مرفوعة.. وسار الموكب.. وأقبلت كتيبة من الجند البريطاني المدجج بالسلاح، وإذا بالجمهور يضع الجثث على الأرض ليدخل في معركة مع البريطانيين الذين جاؤوا لقمع الموكب وفشلوا، وتقدم البعض لوضع النعوش في السيارات، ولكن الجمهور حال دون ذلك، واستأنف السير إلى المقبرة مشياً على الأقدام خمسة كيلومترات، وقد استغرق السير من الجامع الكبير في ساحة «الجرينة» إلى مقبرة «الياجور» ثلاث ساعات ونصف الساعة».
بعد 13 عاماً من استشهاد القسّام، عام النكبة، كانت العصابات الصهيونية تجتاح كثيراً من قرى قضاء جنين، وجنين نفسها، لكن عمر علي البيرقدار، القائد العسكري العراقي «اتخذ قراراً بالتوجه إلى المدينة من أجل تحريرها، ونظَّم قواته مع المجاهدين المتطوعين من فلسطينيي «نابلس» و»عرابة» و»برقين» و»رمانة» و»صانور»، واستطاع أن يصل جنين»، وبالتالي تحريرها، وقد ارتقى في تلك المعارك 44 جندياً وضابطاً عراقياً تحتضن مدينة جنين حتى اليوم قبورهم بإجلال وإكبار.
جنين السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كانت على الدوام مركز إشعاع نضالي بطولي، ظلّ يتصاعد ويتصاعد حتى الانتفاضة الأولى، ثم الانتفاضة الثانية، وصولاً إلى معركة مخيم جنين الكبرى التي كانت واحدة من أكبر المعارك التي خاضها ثوار فلسطين وشعبها على مدى تاريخ فلسطين الحديث، وقد احتضن تلك البطولة الفذة مسلسل «الاجتياح» الذي أخرجه التونسي الرائع شوقي الماجري، كما صدرت عشرات الكتب عن تلك الملحمة الاستثنائية التي خاضها مقاتلون أشداء في وجه الجيش الصهيوني المعزز بكل أنواع الأسلحة، وبالصمت العربي، لكن ما كان مختلفاً أن قوات الأمن الفلسطيني يومها، بوجود ياسر عرفات، كانت من طلائع صدّ ذلك الاجتياح، وكان أبو جندل، المدِّرب في صفوف الأمن الوطني، الذي ولد في «يَعْبَد» نفسها التي استشهد القسّام في أحراشها، هو القائد الميداني لتلك الملحمة.
لا يفصل معركة جنين تلك عن معركة جنين اليوم 21 عاماً من الصمت، بل 21 عاماً من النضال المستمر الذي تعزّزت فيه مكانة جنين ومخيمها وقراها ببطولات لا حصر لها، وشهداء ارتقوا دفاعاً عنها وخاضوا أشرس المعارك في داخلها، أو نفذوا عمليات استثنائية خارجها، جعلت اسم جنين وقراها رمزاً نضالياً استثنائياً، وعلامة كبرى في تاريخ النضال الفلسطيني.
كانت امرأة من «جنين» تتحدث منذ يومين ساخرة من الجيش الصهيوني الذي يحشد كل هذه القوة، لمواجهة شباب ولِدوا بعد ملحمة عام 2002، أو خلالها، عن طغاة لا يتعلمون الدّروس.
اليوم، يمكننا القول: لعل مقتل الجندي الصهيوني أثناء عملية انسحاب ذلك الجيش، هي الدليل الأكثر بلاغة على أن العملية الصهيونية ليست أكثر من عمليات سبقتها، لن تستطيع أن تضع نقطة في آخر السطر، حين يتعلق الأمر بالمقاومة، أما عملية تل أبيب التي نفذها مقاتل فلسطيني انتقاماً لشهداء جنين وجرحاها والمعركة لم تزل دائرة، فهي دليل آخر على أن جنين وغيرها من المدن الفلسطينية تستطيع أن تولد في أكثر من مكان، وفي أكثر المناطق تحصيناً في قلب الكيان الصهيوني.
وبعــد:
في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي قال لي أحد الشهود: كثرة الشدّ هي التي خلَقت الثوار، أمّا قبل هذه المعركة، فقد شاهدتُ مقطعاً قصيراً، وصلني عبر واتساب، تسأل فيه إحدى الفضائيات طفلاً فلسطينياً صغيراً: ماذا تحب أن تكون عندما تكبر، فيجيب: نحن في فلسطين لا نكبر، إنهم يقتلوننا دائماً قبل أن نكبر.
تلك الجملة التي قالها ذلك الشّاهد أشارت إلى شدائد خلَقت ثوار الأمس. لذا، هل من الضرورة أن نتساءل: ما الذي يمكن أن تخلقه تلك النتيجة التي توصّل إليها طفل لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ذلك الطفل الذي يدرك أنهم لن يسمحوا له أن يكبر.
وبعد أيضاً: هنا هذا الكيان الصهيوني الذي يصرّ على ألّا يفهم هذا الكلام، وهنا السلطة الفلسطينية المُنسَّقة عملياتُه معها، وهنا هذا العالم الذي بات متغوّلاً حتى في صمته، ولا يدرك أن أولئك الذين في أحشائه مضطرون لالتهامه من الداخل، إن لم يكن اليوم فغداً.