جنّة القراصنة

حجم الخط
3

تعرفون تلك الجملة الشهيرة التي تقول: «جميع الحقوق محفوظة: لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات، أو نقله بأي شكل من الأشكال، دون إذن خطّي مسبق من النّاشر». لنكن واقعيين ونعترف بأن هذه الجملة التنبيهية ليست أكثر من «هراء عربي» آخر يبتلعه الكاتب في بلادنا، كما يبتلع كل أنواع المرّ في حياته.
ففي مقال للكاتب السوداني أمير تاج السّر، نكتشف مدى وقاحة قراصنة الكتب من خلال تجربته الشخصية، وفي مقال آخر للكاتب الجزائري سعيد خطيبي ـ الذي استمددت منه عنوان مقالتي اليوم – يتضح لنا تواطؤ القارئ المحتاج معهم، كونه يجد كل ما يريد دون تكلفة في جنة القراصنة تلك، لكن لعلّ أخطر تواطؤ هو تواطؤ الناشر الذي لا يقوم بواجبه لحماية حقوق مؤلفيه. لأن تلك الجملة التحذيرية التي يطبعها على منشوراته، تعتبر وعدا قطعه مع مؤلفيه، ووجب الالتزام به. فلماذا لم يقم النّاشر بدوره؟
في الصيف الماضي أصدرت محكمة فرنسية حكما من شهرين إلى عشرة أشهر سجنا مع وقف التنفيذ على قراصنة كتب، أُدينوا بعمل نسخ رقمية من الكتب بين عامي 2011 و2013 وقاموا بنشرها على الإنترنت. المحامي الذي مثّل الناشرين قال في نهاية تلك الجلسة: «يمكن لعالم النشر اليوم أن يهنّئ نفسه» فذلك الحكم كان أساسيا لحماية الإبداع من النّهب والازدراء». أمّا الفضاء الافتراضي الذي اعتبره كثيرون غير حقيقي ووهمي، فقد كاد يدمّر منظومة النّشر كلها، بإلحاق خسائر بصنّاع الكتب وبالكُتّاب أنفسهم، إلى أن اتُّخِذت إجراءات صارمة لحماية الكتاب من النشر المجاني على الشبكة العنكبوتية. لكن هل يمكن اتخاذ الإجراءات نفسها في العالم العربي؟
السؤال جاد وخطير، كون أغلب الفرضيات تقول إنّ البلدان العربية تفتقر لقضاء قوي ومستقل، فهو أشبه بالمتاهات الصعبة التي قد يدخلها المرء شابا ويخرج منها وقد أكله العجز والهرم، لكن هناك فرضيات أخرى توجّه أصابع الاتهام مباشرة للناشر الذي لا يغامر بطبع كمية كبيرة من أي كتاب ينشره، حتى حين يكون ناجحا، وهو بذلك يضمن بيع الطبعة وتحقيق ربحه، ولا يهم إن تمت قرصنته بعد ذلك. ويشرح لي صديق له علاقة بالنشر والنّاشرين، أن لا ناشر يغامر بأرباحه من أجل تحقيق أرباح للكاتب، فما دام الكاتب يدفع ثمن طبع كتابه فإن الناشر تحوّل هنا إلى «مقاول» بتشجيع من الكاتب نفسه، وأي خسائر مادية أو معنوية تلحقه فهو المتسبب الأول فيها. لنتحقق من الأمر منذ البداية، يقبل الكاتب بنسبة عشرة في المئة ربحا له من سعر الغلاف، وتتوزع التسعون في المئة الباقية بالتساوي بين الناشر والموزع والمكتبي، تبقى نسبته هي نفسها في حال نشر كتابه رقميا، والسؤال: على من تتوزّع التسعون في المئة من نسبة المبيع في هذه الحالة؟ إذا لم يوفّر الناشر دخلا محترما للمؤلف الذي يقدّم جهدا وعملا فكريا فكيف يعيش؟ وكيف يستمر في إنتاج إبداعه؟ وإن لم تتوزّع نسبة الأرباح بالتساوي معه ومع فريق النشر والتوزيع والبيع، فإن الأمر يبدو نوعا غريبا من الاستغلال إن لم نقل إنه استعباد. لا شيء يبرِّر للمزوّرين وقراصنة الكتب سرقتهم لعمل الآخرين، على عشّاق القراءة أن يفهموا أن «شرههم المرضي للكتب» لا يسمح لهم بالتّعدي على «لقمة عيش المؤلفين».

في الصيف الماضي أصدرت محكمة فرنسية حكما من شهرين إلى عشرة أشهر سجنا مع وقف التنفيذ على قراصنة كتب، أُدينوا بعمل نسخ رقمية من الكتب بين عامي 2011 و2013 وقاموا بنشرها على الإنترنت.

يزداد الأمر تعقيدا كلما ظننّا أنّنا اقتربنا من عصب المشكلة، فنحن نطالب النّاشر أن يحمي حقوق الكاتب، ويحارب الكِتاب المقرصن، لكن وفق تجارب لناشرين معروفين مثل دار الكتاب الجديد، فإن هذه الحرب تستنزف الناشر إلى آخر رمق، وتكاليف مقاضاة هؤلاء القراصنة كبيرة، ومكلفة ومرهقة، ومع هذا استطاع صاحب هذه الدار أخذ حقه من بعض المقرصنين في دول عدة، ويحرص عند نشر كتاب مترجم دفع حقوق ترجمته، وأن لا يبدأ بتسويقه بعد إنهاء طبعه، إلاّ في أحد المعارض لضمان بيع عدد لا بأس به من النسخ قبل قرصنته، فقد أصبح القراصنة يتنافسون في ما بينهم لإصدار النسخ المقرصنة في أكثر من بلد ورقيا، أو على شكل PDF وإن كان الورقي يمكن السيطرة عليه فإنّ ما ينشر على شبكة الإنترنت لا يمكن التحكم فيه، فبمجرّد إطلاق نسخة الكتاب تكون قد انتشرت في كل أصقاع العالم، وتناقلتها مواقع لا حصر لها، وهذا يجعل متابعة المقرصن عملية مستحيلة.
إنّه أمر محبط فعلا، خاصة أن ثقافة الحقوق في العالم العربي غير موجودة، فكل الترجمات من خمسينيات القرن الماضي إلى بداية القرن الحالي كانت تنشر وتُسَوّق دون أي مراعاة للحقوق. هناك كتب يعاد طبعها مئات المرّات من طرف دور نشر لتحقيق مدخول جيد، ما دام الإقبال عليها مستمرا مثل كلاسيكيات الأدب الغربي، والعربي سواء، فلا من محاسب ولا من مراقب. أضف إلى ذلك وقوف بعض الشيوخ والجهات الدينية إلى جانب المقرصن بشكل صريح بحجة أن «العلم لا يحجب» هناك فتوى غريبة سمحت بقرصنة الكتب وتوزيعها دون مقابل، بعد ثلاثة أشهر من نشرها، دون أي شعور بالذنب تجاه المؤلف الذي تذهب حقوقه هباء منثورا.
نحن أمام معادلة صعبة، أقطابها شجع النّاشرين، قرّاء مداخيلهم جد ضعيفة مع صعوبة ظروف حياتهم، وغياب مكتبات عامّة تتكفل بتوفير الكتاب وإعارته لهذه الفئة، كون هذه الأخيرة كانت قبل الزمن الإلكتروني تحضن فئة واسعة من القرّاء المعوزين، دون الإساءة لأي من الأطراف. عن ولادة منصّات إلكترونية شرعية لإعارة الكتب، لا يزال الأمر مقتصرا على عدد قليل منها في العالم كله، فهي تقتني الكتاب بسعر معين وتعيره بسعر أقل من سعره في السوق، وتبقى النسخة عند القارئ لفترة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع قبل انتهاء صلاحيتها، وهذه الطريقة تبدو أقلّ ضررا للحفاظ على حقوق المؤلفين.
بقي سؤال واحد عالق لديّ وهو «هل توجد لجان لحماية الحقوق الفكرية؟»
نظريا هي موجودة في كل العالم العربي، أمّا فعليا فهي في أغلبها غائبة. هي مجرّد قوانين على الورق مثل غيرها من القوانين، والدليل أن الكاتب لا يثق فيها، والنّاشر لا يعترف بها ضمنيا ولا يعمل بها، والمقرصن يتصرّف وفق قانونه الخاص.
يبقى حلٌّ واحد متواضع يمكن للكاتب أن يلجأ إليه، وآمل أن لا يتلقى الرّد نفسه الذي تلقاه كل من أمير تاج السر وسعيد خطيبي. وهذا الحل يتطلب أولا التحقق من الإشعار القانوني للموقع الذي ينشر الكتاب المقرصن، وقد يبدو الأمر مفاجئا عند العثور على مالك الموقع أو بريده الإلكتروني، فقد يكون قارئا مهذبا ويفعل ذلك بحسن نية، ومراسلة واحدة تكفي لإزالة الكتاب من الموقع، فعادة ما يتم أخذ طلبات انتهاك حقوق الملكية الفكرية على محمل الجد من قبل «القراصنة الشرفاء» إن صح تصنيفهم هكذا بحكم نواياهم الحسنة.
إن لم تنجح هذه الفكرة فهناك خرطوشة نهائية تتمثل في إبلاغ غوغل عن جرم الصفحة التي تقدّم الكتاب المقرصن، مع طلب بشطبه من القائمة، في الغالب سيتم حجب الصفحة بنسبة تزيد عن 80% وهذا في صالح الكِتاب والكاتب والناشر معا. يحتاج هذا الإجراء إلى تفرّغ وميزانية لهذا لا تلجأ إليه إلا دور جد قليلة في العالم العربي. أمّا إن كان الكاتب متسامحا مثل صديقنا طيب القلب أمير تاج السر، فإن «جنّة القراصنة» سيقطنها الأبرياء والفقراء والمعتوهون، وستزدهر على حساب المؤلفين الذين سيحتاجون إلى مهنة قارّة تستنزف قدراتهم الإبداعية من أجل لقمة العيش. وهذا أمر تعوّدنا عليه قبل انتشار القرصنة وبعدها، فحقوق الكاتب مقرصنة منذ زمن بعيد وقد ألفناها لدرجة أن بعض الكتاب يسعد حين تُقرصن كتبه معتبرا ذلك من علامات نجاحه وانتقاما غير مباشر للناشر النّاهب لحقوقه.

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مُتَابِعٌ:

    يَقومُ الكاتِبُ أَوْ النّاشِرُ فِي كَثيرٍ مِنْ الأَحْوَالِ بِنَشْرِ نُسْخَةٍ رَقْميَّةٍ نَصّيَّةٍ مِنْ الكُتّابِ بِصيغَةِ pdf مِمَّا يُسَهِّلُ عَمَلَ القَراصِنَةِ . وَمِن ضَمِنِهِ تِلْكَ الجُمْلَةُ الشَّهيرَةُ حَوْلَ حُقوقِ المُؤَلِّفِ والنّاشِرِ .

  2. يقول S.S.Abdullah:

    في سياق بداية 2022، (سرقة بلا حدود)، أو كما هو عنوان البحرينية (بروين حبيب)، في جريدة القدس العربي (جنّة القراصنة)، البريطانية بالذات،

    بخصوص عملية النشر في سوق أو أجواء (الشابكة/الإنترنت)، أو هل عملية (التدوين) في كتاب (ورقي أو إليكتروني)، والبيع في أي سوق على أرض الواقع، أو في أجواء العولمة، حيث لا حدود،

    لكي يمكن احتكار إيرادات من أي شيء لأي دولة أو قانون، يستطيع محاسبة فلان أو علان، عندما يتجاوز على شروط عقد الشراكة في الإنتاج، بين الناشر أو المؤلف أو السوق في أي دولة من الدول الأعضاء، في محكمة العدل الدولية التابعة لنظام الأمم المتحدة بعد عام 1945؟!

    السؤال بالنسبة لي في عام 2022، عملية الحصول على المعلومة، التي في داخل أي كتاب، على أي صفحة من صفحاته، والاستفادة منها،

    في إنتاج أي منتج لغوي، جديد، من خلال أي وسيلة من وسائل (التدوين) مقروءة أو مسموعة أو مشاهدة أو ملامسة، ذو إيرادات إقتصاد دولة/شركة/أسرة/إنسان، هل هي سرقة، أم لا، ولماذا، وما الدليل الشرعي على عدم جواز (الاحتكار) بعد النشر بأي شكل من الأشكال؟!??
    ??????

  3. يقول الدكتور جمال البدري:

    في حوار مع صديق ناشر للكتب…حدّثته عن موضوع القرصنة التي تعرّض له أحد كتبي ؛ وهو الآن منشور من دون موافقتي في أحد المواقع في إحدى الدول المجاورة…ردّ عليّ بالقول : ( كلنا قراصنة ياصديقي ).فعلمت حين العلم لا يجدي الفتى…أنّ التي ضيعتها كانت معي.وأمري لله.فطلع الصباح ؛ وسكت شهريار عن الكلام المباح.

إشترك في قائمتنا البريدية