اختار المخرج لفيلمه مكاناً متخيَّلاً، إحدى الجزر الإيرلندية واسمها إينيشيرين، وزماناً كذلك غامضاً في تحديده، ضمن الحرب الأهلية الإيرلندية في عشرينيات القرن الماضي. تأخذ الحكايات أسطوريتها من مكانها أساساً، اسماً غريباً ضمن إقليم محدّد، ويكون الزمان عادة غائماً، وتحديده يكون لرسم القوانين المنطقية التي من خلالها يحضّر المُشاهد أدواته لإدراك الفيلم. هنا، اتخذ المخرج الإنكليزي مارتن ماكدونا، هذه الشروط اللازمة للحكاية الأسطورية، حكايات الأطفال، الخرّافيات، تلك التي تحمل قيماً أساسية في الحياة، وبسيطة، يحملها إلى تعقيدات يوميات الكبار ودمويتها، واضعاً لحكايته، وهي بين صديقين ينزف الدم بينهما وتشتعل النيران، خلفية حرب أهلية بين إيرلنديين. كانت للجزيرة، على أطراف البلد، حربها الأهلية الخاصة، ذات الرمزية الطفولية.
في «جنّيات إنيشيرين» (جائزتا أفضل سيناريو وأفضل ممثل في مهرجان فينيسيا) صديقان، يمر أحدهما، وهو أقرب لـ»أحمق القرية» على الآخر كل نهار ليترافقا إلى الحانة، في ما تبدو جزيرة غير مأهولة بما يكفي، محاطة بالتلال الخضراء والشواطئ الحجرية الباردة. يبدأ الفيلم برفض الأخير مرافقة صاحبه إلى الحانة قائلاً، إنه لا يريد أن يكون صديقه بعد اليوم لأن في ذلك ما يشعره بالملل. يدور الفيلم حول محاولات الأول استيعاب هذا القطع الحاسم لما بدت صداقة حميمة بين رجلين، الأول بينهما يحمل حمقاً لطيفاً ومحبَّباً في كلامه وسلوكه وتفكيره، والآخر، قاطعُ العلاقة، موسيقي متفذلك يدّعي الثقافة، ويحاول إنجاز أي شيء في ما تبقى من حياته.
السياق للحكاية يمنحها أسطورية ما، وكذلك كل ما يحضر في الفيلم يتمحور، بمركزية، حول الشخصيتين ومسألة الصداقة التي أُبطلَت بينهما، بما في ذلك شقيقة الأحمق اللطيف، المرأة العاقلة بين رجال بلهاء يشربون في الحانة ويتحادثون، صباحاً ومساء، تقرأ كتباً وتحصل على عمل في مكتبة في المدينة، وتصحّح للموسيقي المتفذلك عن القرن، الذي عاش فيه موزارت، بعدما عاب على شقيقها، الأحمق اللطيف، جهله باسم موزارت.
الأجواء هذه، بتصوير أقرب لحدائق الحكايات الخرافية، وبحضور متكرر لجنّية تُنبئ بالموت، وتمنح أسطورية بصرية وسردية للفيلم، وبانطلاق من مسألة غريزية هي الصداقة، بين رجلين أحدهما يفكّ بلؤم صداقته مع الآخر، الأجواء هذه منحت للفيلم حالةَ الحكاية، الخرّافية، لكن للكبار، لما فيها من دموية ومن عنف، وقبلهما من قسوة نفسية ينزلها كل من الصديقين على الآخر. الأول لفكّ صداقته إنّما دون تبرير واضح، دون مبرر معقول، والثاني لإلحاحه المرَضي على إبقاء صداقته وحالة النكران التي حوّلته إلى عنيف واحتمال المجرم.
يحذّر المتفذلكُ الأحمقَ، بأنه كلّما حاول التواصل معه قطع واحداً من أصابعه، بمازوشيّة ستعيقه عن التأليف والعزف، لن يصدق الآخر، لحمقه أو لطفه أو لكليهما معاً، فيواصل بسذاجة محاولاته إرضاء صاحبه، بما يثير الشفقة، في تطوّر للشخصية إلى شدة سذاجتها وبراءتها، ما سينقلب، فجأة، إلى عنف مفرط. لتدخل الخرّافية مجال الحرب الأهلية، صدى إنساني لحرب يُسمَع ضجيجها من بعيد، صدى محلي حميمي شخصي بين صديقين لا يفهم أحدهما لم قطع الآخر العلاقةَ (والأصابع) ولا يفهم الآخر إفراط الأول في إصراره على تلك الصداقة.
الفيلم، The Banshees of Inisherin، في اخضرار تصويره لسيطرة التلال على لقطاته، ولرماديّة البحر وهيجانه في أفق اللقطات، وفي قرويّة المَشاهد، وفي ذكاء الحوارات لسذاجة متحدثيها، الفيلم بأشيائه المحدودة: كأس بيرة جينِس الإيرلندية، طاولات خشبية عتيقة، آلة كمان، آلة لقطع الأصابع، كلب وحمار وبقرة، وغيرها من أشياء محدودة وبسيطة، إنما تبني هذا العالم الخيالي بأفقه الإنساني الشاسع، الفيلم، بهذا كله وبغيره، حالة تأمّل كلامي ومشهدي، هو حكاية ببراءة الأطفال تلوّثت بعنف الكبار في حديثهم وسلوكهم. هو مكثّف في جمالياته البسيطة، كلاماً ومَشاهد.
كاتب فلسطيني سوري
السياق للحكاية يمنحها أسطورية ما – والأنسب:
سياق الحكاية يضفي عليها طابعا أسطوريا
(العبارة الأولى تبدو نقلا حرفيا عن النص الإنكليزي!)
فاتني أن أقول، هنا في هذه المناسبة، إن البساطة المتعمدة في حبكة الفيلم الإيرلندي المعني، وخاصة من حيث محدودية عدد الشخصيات وريفية المشاهد باخضرارها الجلي ودكنة المحيط بطغيانها الأكثر جلاءً وما إلى ذلك، هذه “البساطة” كلها إنما هي مشتقة بنحو أو بآخر من مسرحيات صامويل بيكيت، حيث لا نرى على الأغلب سوى شخصية أو اثنتين تتوليان سير الأحداث وسردها في سيرورة كوميدية سوداء تتعقّد فنيا وفلسفيا شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى عقدة، أو مجموعة عقد، نفسانية يستحيل حلها بأدوات واقعية مهما بلغت من العمق المنطقي – تحية لمارتن ولفاعل الخير على ملاحظاته اللغوية الثاقبة !!؟
كلام عميق جدا ورائع جدا ،، شكرا جزيلا أستاذ واجئ النقطاء العتوفين !؟
شكرا أخي مارتن، كان على مُعِدِّ التقرير أن يمحِّص أكثر قبل أن يُعِدَّ تقريره هذا! فقد بدأه بالعبارة التالية: «اختار المخرج لفيلمه مكانا متخيَّلا، إحدى الجزر الإيرلندية واسمها إينيشيرين» – واضح أنه لا يدري أن كلمة «إنيشيرين» ذاتَها تعني «جزيرة إيرلندا» في اللغة الإيرلندية القديمة !!؟
تحية تقدير للأستاذ القدير واجئ النقطاء العتوفين على ملاحظاته النقدية الثاقبة
وتحية تقدير أيضا لمخرج الفيلم مارتن ماكدونا على مشاركته في هذا الحوار الممتع
الناقد الثقافي
الفيلم اعمق مما تقول وهناك اداء رائع من جميع الممثلين واما المكان كأنه هو الذيخلق الحدث أو ان الحدت تم تشكيله لاحتواء المكان وبسببه ..مع لطف تحليلك