لعل أهم مؤشرات حركية المشهد الثقافي العربي، هي التزايد الملحوظ في ما ينشر من نتاجات إبداعية أدبية، وفي مقدمتها الرواية والقصة القصيرة.
وبحسب القانون الطبيعي للإبداع، فإن أي إنتاج كمي يفترض أن يؤدي إلى تطور نوعي، عليه يعتمد المراقبون نقاداً وباحثين، في تعيين مستوى الإجادة الفنية، التي تحققت خلال عام أو خمسة أعوام أو عقد، وتحديد الشوط أو الأشواط التي قطعها ذلك الإنتاج، ضمن مرحلة من المراحل، وفي بقعة ما من بقاعنا العربية.
ولا خلاف في أن وراء أي حركية إبداعية عوامل عدة هي بمثابة محفزات ومهيئات، تساهم في عملية تحريك الوتيرة الإنتاجية، وبعض تلك العوامل ذاتي خاص يرتبط بالأديب نفسه، وما يحيط به من أوضاع تحفزه على الكتابة، سواء أكانت تلك الأوضاع سلبية أم إيجابية؛ وبعضها الآخر موضوعي يرتبط بالشأن العربي العام من نواحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فضلا عن التزايد في دور الطبع، ومراكز النشر التي لا تفرض قيوداً، أو معايير على زبائنها الكتّاب، باستثناء قيد المال الذي إذا كان جاهزا نُشر المخطوط من دون انتظار أو رجاء.
بيد أن هناك عاملاً آخر صار يؤثر في الآونة الأخيرة بطريقة كبيرة في كتابة الرواية، هو عامل التسابق، الذي ساهمت في ظهوره جوائز الرواية العربية، التي أسالت بامتيازاتها الهائلة أقلام الطامحين لنيلها، وأذاعت بينهم روح التباري في حلبة صراع، ليس فيها قوي وضعيف؛ إنما فيها غالب ومغلوب. فإما الغالب فهو الذي ربح الجائزة، وأما المغلوب فهو الذي يظل يرشح للجائزة كل عام. ليكون التسابق أهم ملمح من ملامح المشهد الروائي الذي صار محموما حمى لم يعرفها الأدب الحديث والمعاصر من قبل.
وصارت كتابة الرواية مستسهلة، ما دام الترشح للجائزة عشوائيا وكيفيا، ولا يتضمن معايير تشترط مستوى مناسبا من المشاركة؛ بل هي أوراق بحجم مناسب ترصف بالسطور، ويجمعها غلاف مكتوب عليه (رواية) ولا ضير بعد ذلك إن كان كاتبها عارفا قواعد اللعبة السردية، أم لم يعرف، وسواء أمضى زمنا في قراءة روايات عالمية وعربية، أو لم يقرأ. كما لا فارق إن كانت له معالجات إجرائية أو نظرية في الكتابة الروائية أو لا، وسيان بعد ذلك إن كان قطع شوطا في الإنتاج الروائي، أم لم يقطع، ولا يهم أيضا إن كان شاعرا أو مسرحيا أو صحافيا، جاء للجائزة روائيا رغبة بأعطياتها السخية.
كتب نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وحنا مينه وغائب طعمة فرمان ويوسف عواد وعبد الرحمن منيف، روائعهم ولم يكن في بالهم ولا زمانهم جائزة تحفزهم؛ بل الذي حفزهم هو واقعهم الاجتماعي وطاقاتهم السردية
وإذا كان التقدم للترشح على أي جائزة، لا يتطلب شروطا، فإن من الطبيعي أن يشترك المبتدئ والمحترف ويكونا على كفة واحدة في الحظ والنصيب، في ربح جائزة مغرية لها مردودات مادية، وامتيازات أثيرية هائلة وضخمة، ستتيح شهرة وانتشارا، فاتحة أبواب المجد على مصراعيه، ليكون الفائز هو الروائي رقم واحد، الذي تسلط عليه الأضواء، وعنه يكتب النقاد، وحوله تعقد الندوات، وتجرى الاستفتاءات والمقابلات، وكأن الفوز هو الحد الفاصل بين عهدين عهد قبل الجائزة وعهد بعدها.
ثم ماذا بعد التنافس والتسابق على جوائز الرواية؟ هل يقرر الروائي ـ سواء الذي فاز أو الذي لم يفز ـ أن يكرر الترشح مجددا، أو أن يطور تجربته وقد أصابته حمى التنافس، فجعلته يكتب ويسابق الوقت بهدف أن ينافس غيره؟ وكيف يكون الوقت كافيا لكتابة فيها إضافة نوعية للرواية العربية، والكاتب ملزم بوقت عليه أن ينجز خلاله رواية ويطبعها وينشرها، ولا يهمه بعد ذلك أن يضع أو لا يضع خطوة في ميدان ممارسته الكتابة الروائية؛ وإنما المهم عنده ألا يداهمه الوقت في جولة مقبلة عليه، فيها أن يقتنص فرصة الحظ هذه. وهو ما نلمس آثاره في التراجع الكبير في فنية الكتابة الروائية، التي زالت عنها جديتها وغابت عنها حنكتها الفكرية، وضاعت في دروب الشائع والعمومي، من المقاسات المطلوبة او المستحسنة سلفا، أو المتوافق عليها ضمنا. وصار القارئ العربي يختنق، وهو يجد كما من الروايات تكتب على غرار تلك الرواية التي أصابها الحظ، وفازت بإحدى الجوائز. وما تزايد الإنتاج الروائي كل عام مقابل تراجع نوعية هذا الإنتاج، وقلة متلقيه، إلا تبعة من تبعات عامل التسابق، الذي تكمن خطورته في أنه يقضي على مسائل إبداعية، كظهور جماعات فنية تتبنى رؤية روائية معينة، أو قيام أديب بالمراهنة على تجريب يبتكره في مجال من المجالات الروائية، يبشر به ويدعو إليه.
وطبيعي بعد ذلك ألا نلمس في المستقبل اهتماما واضحا بالبحث عن أساليب نوعية ومناهج جديدة في الكتابة، تؤسس لتقاليد كتلك التي أسسها الجيل الأول من الروائيين العرب، والجيلان أو الأجيال الثلاثة التي جاءت بعده. فالأمر سيظل متسمراً عند أمزجة ومشتهيات، أو تصورات ثلة من النقاد المتوقع حلولهم كمحكمين في هذه الجوائز، وهم غير خافين ولا يخطئهم حدس المتسابقين. ولن ننسى أن البحث عن التفرد النوعي في الكتابة الروائية، كان سببا مهما في ظهور روائيين عرب، صاروا كبارا وهم يطوعون أفكارهم فنيا، ليحولوها إلى أعمال روائية عكست طاقات إبداعية بعيدة كل البعد عن أي مغريات مادية أو مكاسب آنية، أو مصالح ضيقة وشخصية.
وقد كتب نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وحنا مينه وغائب طعمة فرمان ويوسف عواد وعبد الرحمن منيف، روائعهم ولم يكن في بالهم ولا زمانهم جائزة تحفزهم؛ بل الذي حفزهم هو واقعهم الاجتماعي وطاقاتهم السردية، معبرين عن هم ذاتي بإحساس موضوعي يصور الحال العربي، ويتنبأ بوعي عال وسيمياء فكرية بالمآل العربي المقبل، حاملين رسالتهم إلى مجتمعاتهم قاصدين التوعية والتغيير بلا منة ولا رغبة في جزاء أو شكر. هذا وغيره يكاد يغيب أكثر وأكثر مع كل دورة من دورات الجوائز العربية، في خضم ما تثيره من زوابع إعلامية ونقدية، تتعلق بطبيعة الرواية الفائزة، ولماذا اختيرت، ومن هم المحكمون وأسئلة أخرى على الشاكلة عينها. ويتبع هذه الاهتمام انشغال الكثيرين بالكتابة، وفق معطيات الرواية الفائزة، كقالب وموضوع. لكن الخطير ليس هذا وحسب، بل هو النقد نفسه الذي انخرط هو الآخر في حلبة الصراع، متأثرا بعامل التسابق، هادفا الظفر ببعض فتات موائد الجوائز العربية. وقد صار هذا الأمر اليوم ظاهرة، ومن مؤشراتها اقتحام نقاد الشعر ـ وبعضهم شعراء في الأصل ـ عالم السرد والكتابة الروائية، غير عارفين بأصول هذا العالم واستراتيجياته وتخصصية مفاهيمه ومصطلحاته، ليبزغ فجأة وبلا سابق إنذار ناشرا مقالات في نقد الرواية، حاشرا أنفه في ما لا يعرف من مفاهيم النظرية السردية، محاولا مداراة ضعفه، بالإنشائية، وعشوائية المسميات ومجانيتها، مع التنطع والتذاكي في استعمالها، سواء على مستوى عناوين المقالات أو على مستوى متونها. ومن المؤشرات أيضا الانتقاء المنحاز للرواية، على حساب الشعر والمجموعات القصصية القصيرة، وفنون أخرى كالمقالة والمسرحية، وغيرها وإيثار أسماء روائية بعينها للكتابة عنها، أو إجراء مقابلات وعقد لقاءات في أكثر من محفل وموقع معها، أما مراهنة عليها، لاسيما حين تبلغ القائمة الطويلة أو القصيرة، وأما تكليفا من الروائيين المتطلعين بقوة لنيل إحدى الجوائز في الكتابة عنهم، خاصة أولئك الذين لهم موطئ قدم يقربهم من لجان هذه الجوائز.
لو كان التحكيم في جوائز الرواية يستند إلى معايير موضوعية واشتراطات معلنة وجريئة، لما طمح أشباه النقاد والطارئون بأن يكونوا محكمين في دورة من دوراتها.
ولا شك في أن وراء هذا الانتقاء والتحمس، رغبة في بلوغ لجان هذه الجوائز العربية، لاسيما إذا كان الناقد ذا مواهب في الوصولية، وكان متمتعا بروح دبلوماسية صداقية حاذقة قد لا تعطيه وقتا ليقرأ روايات على مستويات عالية من الفنية، وقد تكون له امتيازات اعتبارية بمنصب أو إدارة تدعم ممارسته الدور الوصولي، وتؤهله لبلوغ ما يريده بتكتيكية عالية.
ولو كان التحكيم في جوائز الرواية يستند إلى معايير موضوعية واشتراطات معلنة وجريئة، لما طمح أشباه النقاد والطارئون بأن يكونوا محكمين في دورة من دوراتها. ولن يكون غريبا بعد ذلك أن نجد محكما اختير لا لشيء سوى ألمعيته الإعلامية، وهو الذي لا يصطبر على قراءة رواية واحدة حتى النهاية، وذاك صار محكما وليس في رصيده سوى بضع روايات قرأها على فترات مختلفة، وثالثا يعرف من الرواية العربية على عدد أصابع اليد، ومحكما آخر ينصب اهتمامه على الرواية الأجنبية فلا يتقن دارج اللغة العربية، وعاميها ولهجتها ولكناتها، التي قد توظف بطريقة فنية في المقاطع الحوارية أو المونولوجية. هذه المؤشرات التي فيها ينخرط النقد في حمى التنافس تجعل معايير الجوائز في الفوز مشكوكا فيها، وإلا كيف يفوز روائي لم يرشح للجائزة أصلا، أو كيف يكون في لجان التحكيم أديب لم يكتب الرواية، ولم يكن له في يوم من الأيام أي مقال نقدي أو بحثي في ظواهر الرواية وقضاياها. أما إذا كانت له شهادة أكاديمية، فلن تشفع له ما دامت في غير جنس الرواية.
ومن ثم يصبح هذا الارتكان إلى المزاج والعشوائية، وعدم الجدة في النظر إلى التجارب الروائية سببا منطقيا ورئيسا في تراجع المستوى النوعي للرواية العربية، التي صارت كتابتها اليوم أسهل من تبديل ثوب، وليس قلع ضرس بالمعنى العربي القديم للقلع.
إننا إذ نؤشر هذه الظاهرة فذلك خشية مما يمكن أن يتفرع عنها من ظواهر، تبدو اليوم صغيرة، لكنها مستقبلا قد تنمو وتكبر، ولا يكون باستطاعتنا حينها كبح ضررها أو الوقوف في وجهها، لأن خطرها سيكون قد تفرع في ظواهر جديدة تتناسل عنها. وجل ما نخشاه أن يتحول القانون الطبيعي في كون الكمي يحوي بعضا مما هو نوعي، إلى قانون آخر غير طبيعي فيه الكمي لا يحوي أي شيء نوعي. وعند ذاك ستُنتفى فائدة الرواية وستركن جانبا، وقد عزف عنها القراء إلى أدب آخر لم تصبه بعد حمى الجوائز العربية بالعدوى، لنراهن على جودته، راجين ألا تضع الجوائز عينها عليه فتصيبه بما أصابت به الرواية من تقهقر وتراجع، ليصير كميا بلا نوع ويفقد بهاؤه ومن ثم يأفل نجمه بمحمومية التسابق على جائزته.
٭ كاتبة من العراق
اسمحي لي يا سيدتي أن أشاطرك بعض هموم الحياة الأدبية الفاسدة وإن لم تقوليها كذلك. قال أحدهم وبلده تشارك في إحدى جوائز الرواية الشهيرة قبل فترة ليست بعيدة: إن من يخالف سياسة بلادنا لا يستحق الجائزة!! البلاد المذكورة تقف ضد الأماني الشعبية العربية، وتشارك فيما يسمى الثورات المضادة للحرية والشورى والكرامة الإنسانية. يفترض في الأديب أن يكون حرا مستقلا لا يخضع إلا لما يمليه ضميره الإنساني الحي، وللأسف فإن معظم الفائزين في الجوائز إن لم يكن كلهم؛ ينتمون إلى ما يسمى الحظيرة الثقافية في بلادهم، وإلى حظيرة المانحين بالضرورة!
3-نتذكر أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة خرّج لنا من خلال مسابقاته رواد الرواية المعاصرة: محمد عبد الحليم عبد الله، نجيب محفوظـ، على أحمد باكثير، محمد سعيد العريان وغيرهم. وكانت لجان التحكيم من عينة طه حسين والزيات وآخرين.
الأدب صار ذريعة من أذرع الأنظمة الحاكمة، ومع ذلك يتساءل بعضهم لماذا لا يقرأ الناس؟
تصويب: صار ذراعا من أذرع، وليس ذريعة.معذرة.
المال مطمع والكتابة روح والروح لا تقدر بثمن لذلك سعت الإمارات على خلط الخث بالسمين لأن مبلغ علمها إذلال المبدع عبر تأجيرها له لمدة معينة لكتابة قصة وفق هوى منفق المال.
وزارات الثقافة تساهم في التردي بتشجيعها للقصة المرئية السوقية خدمة للإشهار الإستهلاكي الذي يخدم حيتان المال الفاسد.
أما مناهج التعليم فالهدف منها هو طمس المواهب وليس صقلها.
كل ما قيل في هذا المقال عن معايير الجوائز، وخاصة في الفقرات الثلاث الأخيرة منه، هو من بين أحد الأسباب الرئيسية التي دعت الأخ حي يقظان يرفض مبدأ الجوائز الأدبية رفضا قاطعا، كما عبر عن ذلك جليا في ملاحظاته المهمة على مقال بروين حبيب “المنقذ” في سياق الحديث عما يُسمَّى هزلا بـ”جائزة الشيخ زايد”، الجائزة التي يعتبرها البعض “جائزة نوبل العرب” دفعة واحدة، أحيل القرّاء أيضا إلى ما أدلى به الأخ ثائر المقدسي من كلام مهم في هذا الصدد !!؟
الجوائز تبقى حافزا أساسيا للإبداع و خاصة من حيث الجانب المادي ، فلا يعقل أن نرى أدباء و كتابا في حالة اجتماعية يُرثى لها .لكن في المقابل يجب أن لا ينسينا ذلك قيمة الإبداع الروائي و وجوب مراعاة شروط العمل الروائي الرصين .
قد تمنح الجوائز على أساس الإبداع أو الولاء السياسي أو الطائفي