لا أدري لماذا انتابني شعور غريب وأنا أطالع نصوص هذه المجموعة، مفاده أن الكاتب الشاب أحمد كامل يحاول التماهي أسلوبياً مع عميد الأدب العربي د. طه حسين. حتى تخيلت أنه يملي على أحدهم، لا يخط بالقلم، ولا ينقر على أزرار لوحة مفاتيح الحاسوب بأصابعه، محتفظاً بنبرة الإيقاع المتمهلة الرصينة للعميد، التي تنطوي على شيء من الحكمة، وتتغذى على البلاغة والجَرْس الموسيقي. هذا تحديداً، في قصة «جوارب عميد الأدب»، وعلى نحو لافت جداً.
بل، تخيلت أيضاً أنه قضى وقتاً طويلاً في مطالعة نثر مصطفى صادق الرافعي، المشرق، الذي يعد مصيدة يصعب التخلص من شباكها إلا بعد جهد كبير. لذا خشيت من أن تدمر هذه اللغة بنية بقية النصوص. وتعطل تقدم الحكي، وهي تزحف وراء البيان العربي، غافلة عن مرونة السرد، وديناميكيته، طبقاً لإيقاع العصر، وتوالي أحداثه بسرعة مخيفة. وحيث لا قِبَل للقارئ بهذا التأنّي في رصف الكلمات، فخطورة هذه البلاغة المفرطة قد تُفقِد القارئ التواصل مع النص، تُفقِده الاندماج والتركيز، تجعله يلهث وراء اللغة، ينسى الحدث، لا يلتفت إلى الشخصيات، وتتوه منه الحكاية.
لكن يبدو أن الكاتب كان أكثر ذكاء من أن يقع صريعاً لفتنة اللغة، أو أن يجعل شخوصه تتحدث بلسانه، كأنه يستنطقهم بوعي مخالف، هم غالباً لا يرقون إليه. فقد استطاع أن يغذي السرد بلغة، هي، بلا شك، مختلفة عن السائد، بها قدر كبير من التمكن، ولكني أعتقد أن لغة هذه القصة، على وجه الخصوص، هي تلويحة محبة لطه حسين. واعتراف عملي بهذا الإغواء الجميل.
في هذه المجموعة القصصية «جوارب عميد الأدب»، ثمة فكرة مبتكرة، تهيمن على معظم قصص المجموعة، تعطيها الوحدة والتناغم. تسعى وراء ثيمة واحدة في أشكالها المتعددة: تواصل الأجيال. من خلال توليفة ناجعة، تصنع نصوصاً تستحق المتابعة. وهي ثلاثية حصرها الكاتب في أسطى وصبي ومهنة. تحضر هذه الثلاثية في أغلب قصص المجموعة. ثمة مهنة متوارثة من جيل إلى آخر، ثمة حرفة تنتقل من والد إلى ابن، أحياناً بشكل يشبه التورط. وعبر انتقال تلك المهن من زمن إلى زمن مغاير، تبزغ الفوارق والتناقضات بين الآباء والأبناء.
في قصة «سير هادئ في أقصى اليمين»، الراوي سائق سيارة أجرة، يعترضه شخص ضخم، يبدو أنه مجنون، أو متفاخر بقوته، أو من هؤلاء الذين يشبهون القدر، الذي لا فكاك منه. يتذكر نصائح والده السائق، بوجوب الحذر في هذه المهنة. قيادة هادئة تستهلك وقوداً أقل ولا تستنزف عمر المحرك. يعدد أسرار المهنة، ألفبائيتها، وطرق السلامة، كل ما يلزم فنيات القيادة، وبالموازاة، يهديه إلى الجزء المكمل. أخلاق المهنة: «كما أن دماثة القيادة توحي بكرم المنبت وتنفي وصمة الفهلوة، وتجد الراكب ختاماً لا يبخل بأجرة جيدة، بلا وساوس حيال تلاعب في العداد أو اتخاذ السائق مساراً أطول عن عمد».
«المهنة» هي التي تنمو
واضح تمكن الكاتب من أسرار الحِرف التي ورد ذكرها في هذه المجموعة، فالذات الساردة، في معظم النصوص، تتحدث بشمولية لافتة، عن الحِرفة التي تشارك بطولة النص، كرافد أساس للسرد، يحوز الاهتمام الأول في تفعيل مجرياته، وتوفير الزخم اللازم له، بنوعية من الموضوعات تذهب بعيداً إلى منطقة لم تطأها أقلام كثيرة. «المهنة» هي التي تنمو، تتفرع منها كل العناصر، بالحديث عنها وحولها يتخلق الحدث، تتخذ الشخصية سماتها، وسمتها. وترتسم صورتها في أذهاننا.
في قصة «سُمّ في العسل»، الراوي صبي. المهنة شحاذ، أو بائع مناديل ورقية، أو ما شابه، الكاتب لم يصرح، ترك التخمين للقارئ، فهو لم يذهب بعيداً عن هذه المهن. مكان الحدث إشارة مرور. يبدأ من نقطة متقدمة: «عند الكورنيش، تدلت أنامل من فرجة في نافذة عربة، وتصدقت عليَّ بقطعة شيكولاتة، وفور توهج الإشارة بالنور الأخضر هرع أبي، فانتزعها من يدي، ثم ألقاها بطول ذراعه في النهر». في هذا النص القصير، سريع الإيقاع، الذي يعتمد على مشهد واحد، شديد الاختزال والتكثيف. استطاع الكاتب أن يجعلنا نتعاطف مع الصبي، الذي راعه غضب أبيه، وردة فعله العنيفة، رغم «سنوات هدر الكرامة»، مشفقين عليه من حرمانه من قطعة الشوكولاتة. وجعلنا أيضاً، نتعاطف مع الأب الخبير بسيكولوجية المهنة. الشوكولاتة واحدة من عناصر التدليل، التي قد تفسد ابنه. تجعله يتعلق بأشياء تخرجه عن المدار المرسوم له: احتمال الحرمان، وعدم التطلع إلى ملذات العالم أثناء عمله. الاحتفاظ بالمظهر البائس، مهلهل الثياب، فهو العنصر الأهم، الذي يعطي مصداقية، ويجلب النقود. الأب يخشى على ابنه أن يصير شخصاً آخر، غريباً عن عالمه، يميل إلى ما هو محرم عليه. نبرة حكمة الآباء وهم يلقنون الأبناء أسرار المهنة، وكذلك الأسطوات مع صبيانهم، نبرة واضحة، يمررها أحمد كامل بمهارة، دون افتعال، فهو لا يكدسها في فقرة واحدة، كأنه يتخلص منها، أنها تتناثر على مدار النص، بخفة، حتى لا يتحول السرد إلى وجهة أخرى، متلكئاً عند منطقة الوعظ.
السرد بضمير المتكلم
ما بين دور الابن مع أبيه، والصبي مع مُعلمه، تتراوح معظم قصص المجموعة، يجري السرد بضمير المتكلم دائماَ، تنتقل إلينا خبرة تلقي أصول الصنعة، بينما القارئ يكتشف معهم أصول صنعة الكاتب الشاب أحمد كامل. ينصت إلى معرفته العميقة بأسرار كثير من المهن، كأنه أحد أربابها، ويغبط هذه العين المدربة على التقاط الأشياء. أنصت إليه وهو يفتتح قصة «أجمل حذاء في العالم» على لسان صبي صانع الأحذية: «لا أذكر من يومي الأول في ورشة الأسطى خليل سوى سؤالي له: ما هو أجمل حذاء فصلته يا أسطى؟». «لا أدري لماذا انزلق مني سؤال كهذا! ربما سببه رؤيتي طيلة اليوم تشكيلات محدودة، تتسم بالقبح نوعاً، من جلود الفُندي «وجه الحذاء»، التي يطبِّعها الصنايعية بمسامير فوق القوالب الخشبية، قبل التعريش واللصق على النعال باستخدام الكُلّة الحمراء».
إنه يأخذنا إلى هذا العالم، داخل الورشة، حتى نكاد نشم رائحة الجلود، والرائحة النفاذة للكُلّة، وهي مادة اللصق السريع. ثم يطلعنا على هؤلاء البشر. مؤنسناً عوالمهم من خلال إضاءة أبعاد هذه الشخصيات الهامشية، التي لم تعُد الأعمال المعاصرة تتسع لهم كثيراً. ربما كان كُتاب الماضي أكثر اهتماماً ورحابة بهم، تأثراً بنوع معين من التيار الواقعي، الفرنسي والروسي على وجه الخصوص، حيث كان مبدعوه يعملون على انتشال هؤلاء الأبطال من قاع المجتمع، والدفع بهم إلى متون الأدب، في نوع من الاحتواء الإنساني، جعل مجتمعاتهم تلتفت إلى وجود تلك الطبقات المنسية.
هبوط من سماء الأحلام السعيدة
يتذكر صانع الأحذية أجمل حذاء فصله لفتاة جميلة، صنعه من روح روحه كما يقول لصبيه. لكن البنت، التي جاءت مع جدتها، عندما تسلمته لم تعره اهتماماً: «ابتسمت في بلاهة، كما كانت لتبتسم مع أيِّ حذاء جديد. ثم طرحته أرضاً سريعاً لتُدخِل فيه قدميها وأعطتنا العجوز بقية الحساب، قبل أن تلتفت وأراها تخطو به فوق كومة روث، ويتلطخ مثل بقية الأحذية». إنه هبوط من حالق، من سماء الأحلام السعيدة، إلى أرض الواقع، الذي لا يُسمح بتجاوزه، إنها حياة جافة، لا تحلق في أجوائها طيور الأحلام.
ثنائية الصبي/ الابن، في هذه الإضمامة، تبدو مجردة من الأسماء، نعاين حالات إنسانية صرفاً. مكتفية بنفسها، تنوب عن المثيل الذي هو خارج القصص، والذي لا يبدو عليه التغيير كثيراً، رغم تعدد الأزمنة والأمكنة. المثيل المتعين، الحقيقي، الذي يدور في الفلك نفسه تقريباً، مع فوارق طفيفة، لكن جوهر الحياة واحد. عندما تدخل تلك الشخصيات إلى القصص، نشعر بتجسدها في الواقع، نكاد نلمسها، من كثرة ما رأيناها وتعاملنا معها بغير مبالاة. لكن الكتابة هنا، تظهر الاهتمام بهذا الجانب المهمل، تعيد الاعتبار إلى شخصيات كاد ينساها الأدب، وهو يجتاز مناطق أخرى، موسعاً نطاق اكتشافاته في حقول متعددة.
في قصة «ملاك». التي تتخذ مساراً مختلفاً، بعيداً عن ثنائية: المعلم وصبيه، نعاين ثيمة أخرى. بطلها، على ما يبدو شخصية نورانية: «ملاك» حسب العنوان، هذه النوعية من البشر التي يطلق عليها المصريون لقب «ولي»، ويتعاملون مع أفرادها برفق وحذر، شديدين، مخافة من العقاب الفوري الذي ينزل على من يحاول إغضابهم: «كلما تلعثمت في كمينٍ ووجد الضابط فيَّ الطريدة، أجد رجالاً مهيبين من مؤسسة رفيعة، يقيدون يدي الضابط كاسرين الأنفة التي تعدت عليَّ، أمام أمناء شرطة وعساكر».
على هذا المنوال. عندما يصفعه أستاذ فصله تنبعث من يده رائحة شواء. وكلما هجرته بنت صار وجهها كمقشة مستنزفة.. إلخ. تتعدد المواقف. نقف معها على تصور كامل لهذا الملاك. هذه الشخصية القادمة من بين ظهرانينا، التي تتسلل من عصر إلى آخر، وتسعى في الأمكنة. موجودة تراثياً، تحتفظ سجلات الشفاهية لكثير من العائلات بشخصية مماثلة، موجودة أيضاً في الخيال الجمعي، تتوارى في الواقع عن الأنظار، ولا تظهر «كراماتها» سوى عند الضرورة القصوى، وفي حالات معينة
لكنها نادرة في عالم السرد، لم تفرد لها مساحات واسعة. هناك أيضاً، نصوص في هذه المجموعة، التي تتكون من أربع عشرة قصة، تعتمد الأشكال المجازية للتعبير، وتبتعد عن الواقع الذاتي، حتى تستطيع توفير رؤية إنسانية أكثر رحابة، لعالم يدير ظهره للتقدم الصناعي، القائم على التكنولوجيا الحديثة، ولا يبالي بالأحداث الكبرى، محتفظاَ ببكارته وسط ضجيج العصر. فقراءة متأنية لقصص، مثل «أيام من حديد»، ّخطوط بلا حقيقة»، «سلسلة مرخية»، تظهر تخلص الكاتب من عبء مسايرة الموضوعات التي تطفو على السطح كل فترة من الزمن، وتسيطر على أذهان المبدعين، بوصفها «موضة»، مولياً اهتمامه لعوالم أخرى، ينهل منها، سارداً بتأنٍّ، ما هو ملائم لبناء قصته، حتى يكون العمل محبوكاً ودقيقاً.
أحمد كامل: «جوارب عميد الأدب»
دار الشروق، القاهرة 2023
116 صفحة.